لبنان على حافة التصعيد: سلاح المقاومة بين الدور الاجتماعي والحسابات الإقليمية

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
في ظل أزمات لبنان المتعددة ، يبرز ملف سلاح المقاومة كقضية مركزية تتقاطع فيها الصراعات الداخلية مع المصالح الإقليمية والدولية. يشهد البلد تصعيدًا سياسيًا وأمنيًا متسارعًا، حيث يصر تيار واسع داخل السلطة وبعض القوى المتحالفة معه على تسليم السلاح تحت شعار “حصرية السلاح بيد الدولة”، مقابل رفض قاطع من حزب الله وحركة أمل، اللذين يعتبران السلاح جزءًا أساسيًا من معادلة الردع ضد العدو الصهيوني وضمانة لحماية لبنان من أي عدوان خارجي. هذا الرفض لا يقتصر على القيادات السياسية الشيعية، بل يمتد إلى استنفار شعبي واسع داخل البيئة الحاضنة للمقاومة، مدعومًا بمواقف حاسمة من شخصيات دينية واجتماعية من مذاهب أخرى، وشرائح كبيرة من الأقليات الدينية التي ترى في بقاء المقاومة المسلحة ضمانة للتوازن الداخلي والردع الإقليمي.
التصعيد الداخلي والطائفي: من الهجوم المضاد إلى خطر الفتنة
دخل المشهد مرحلة “الهجوم والهجوم المضاد”، حيث يصعد بعض الأطراف السياسية خطابها ضد المقاومة، بينما ترد الأطراف المؤيدة بخطاب محذر من أن أي محاولة لنزع السلاح بالقوة ستؤدي إلى فتنة داخلية وخلط أوراق في الشارع. تفاقم الوضع مع دخول البعد السني-الشيعي، خاصة بعد تصدر شخصيات سنية مثل الشيخ حسن مرعب على خط الدفاع عن رئيس الحكومة، مما رفع منسوب التوتر بين الشوارع السنية والشيعية، وجعل احتمالات الصدام أقرب من أي وقت مضى.
يطرح هذا السؤال: إلى أين تتجه الأمور إذا استمر التصعيد؟ هل يحتاج الملف إلى تدخل خارجي إقليمي أو دولي لوقف الانزلاق، أم أن المواجهة الداخلية المحدودة أو المفتوحة ستكون الحل الأسوأ، مع إعادة لبنان إلى أجواء الانقسام الحاد والعنف الأهلي؟
في هذا السياق، يبرز حزب الله ليس ككيان عسكري مقاوم لصالح الدولة و سيادتها فحسب، بل كرافعة اجتماعية واقتصادية أساسية في لبنان.
منذ نشأته في أوائل الثمانينيات، تحول الحزب إلى منظومة متكاملة تمارس أدوارًا سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وخدماتية واسعة النطاق، خاصة في ظل ضعف الدولة اللبنانية وغياب سياساتها التنموية. يُعتبر حزب الله “دولة موازية” لكها رديفة ومساندة، تقدم خدمات لعشرات الآلاف من المواطنين، معظمهم من البيئة الشيعية، لكن أثره يمتد إلى شرائح أخرى.
دور حزب الله الاجتماعي والاقتصادي: رافعة الصمود في ظل انهيار الدولة
تشمل البنية الخدماتية والاجتماعية لحزب الله مؤسسات مثل:
-
- مؤسسة الشهيد: تقدم دعمًا ماليًا شهريًا لعائلات الشهداء، بما في ذلك الرواتب، الرعاية الصحية، والتعليم من الحضانة إلى الجامعة.
-
- مؤسسة جهاد البناء: نفذت آلاف المشاريع الإنمائية، وبنت نحو 16,000 منزل بعد حرب تموز 2006، إضافة إلى تعبيد الطرق وإصلاح شبكات المياه والكهرباء.
-
- الهيئة الصحية الإسلامية: شبكة مراكز ومستشفيات تقدم خدمات علاجية منخفضة الكلفة أو مجانية.
في القطاع التعليمي، يدير الحزب مدارسًا خاصة، جامعات، ومراكز تدريب مهني، ويمول آلاف المنح الدراسية، مما يخفف العبء عن وزارة التربية. أما في القطاع الصحي، فتقدم المستشفيات والعيادات المتنقلة تغطية طبية لعشرات الآلاف، مما يقلل الضغط على المستشفيات الحكومية.
اقتصاديًا، يوفر الحزب دخلًا مباشرًا لأكثر من 200,000 فرد، ويضخ نحو 300 مليون دولار شهريًا في الاقتصاد عبر الرواتب والمشتريات، مما يمثل مصدر عملة صعبة في زمن الحصار. كما تقدم جمعية القرض الحسن قروضًا بدون فوائد بلغت أكثر من 4 مليارات دولار حتى 2022، مستفيدًا منها قرابة مليوني شخص، تعمل كـ”بنك اجتماعي” في بيئة محرومة.
من منظور العلوم السياسية، يُعد حزب الله نموذجًا لـ”المؤسسة السياسية الخدماتية” التي تقوم مقام الدولة، مما يخفف عن خزينتها ويمنع الانفجار الاجتماعي. لكن ماذا لو انتهى هذا الدور فجأة؟ سيضيف مئات الآلاف من العاطلين إلى سوق هشة، ويؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية، مع تصاعد الاحتجاجات وزيادة الضغط على سعر صرف الليرة، مما يهدد الاستقرار الاقتصادي في مناطق واسعة.
التداخل الإقليمي: زيارة لاريجاني وصراع المشاريع الكبرى
أدخل العامل الإيراني الملف إلى مستوى إقليمي، خاصة بعد زيارة علي لاريجاني آمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إلى بيروت، والتصريحات الحاسمة للقائد الأعلى الإمام السيد علي خامنئي الذي أكد أنه “لن يسمح بنزع سلاح حزب الله حتى لو خاض حربًا لذلك”. نقل هذا الموقف القضية من النقاش الداخلي إلى المعادلة الإقليمية، حيث بات السلاح جزءًا من الأمن القومي الإيراني، وأي مساس به يعني مواجهة مع محور المقاومة. تهدف هذه التصريحات إلى تعزيز موقف حزب الله داخليًا، ورفع مستوى الردع ضد محاولات إسرائيلية أو أمريكية.
في المقابل، يزيد هذا من الاستقطاب الطائفي والسياسي، ويضعف فرص الحل الوسط. خلال زيارة لاريجاني، أكدت إيران دعمها للبنان اقتصاديًا، بما في ذلك مساعدات في الكهرباء وإعادة الإعمار، مقابل رفض المساس بالسلاح، معتبرة الحوار السبيل الوحيد لتجنب الفوضى.
أما واشنطن، فتعيد عبر موفديها مثل توماس باراك تثبيت موقفها الداعي لنزع السلاح، مستخدمة الضغط المالي لمنع أي انفتاح خارج المظلة الغربية. كما تمارس السعودية ضغوطًا عبر وكلائها لتأزيم الوضع، مما يدفع المقاومة إلى بناء تحالفات داخلية لتفادي التهديدات.
هذه المفارقة تبرز تناقضات الداخل: بينما ترفض بعض القوى “السيادية” تصريحات إيران، تصغي لتعليمات أمريكية، متجاهلة مبدأ الاستقلال. أصبحت المعادلة صراع مشاريع إقليمية، حيث تتجاوز لبنان إلى مفاوضات أوسع تشمل الاتفاق النووي، غزة، واليمن.
السيناريوهات المحتملة والرهان على الحوار
تشمل السيناريوهات تجميد الملف مع التركيز على الأزمات المعيشية، أو تصعيد محدود عبر اشتباكات سياسية دون انزلاق إلى حرب أهلية بفضل الضمانات الإقليمية . أصبح ملف السلاح بندًا دائمًا في المفاوضات الإقليمية، مرتبطًا بحسابات أكبر. لبنان يقف على خط تماس دقيق بين الصراع الداخلي والإقليمي، حيث تحول الجدل حول “حصرية السلاح” إلى قضية استراتيجية تداخلت فيها إرادة الداخل مع مصالح الخارج.
في المحصلة، يتوقف مستقبل لبنان على قدرته على بلورة معادلة وطنية جامعة تحفظ حق الدفاع عن النفس وتنظم العلاقة بين الدولة والمقاومة، بعيدًا عن الاستقطاب الخارجي. الرهان على العقلاء لإعادة النقاش إلى طاولة الحوار بدل ساحات الشوارع، فحزب الله الذي أكد أنه حزب تحرير، فاعل اقتصادي واجتماعي مهيكل يشكل ركيزة الصمود.
هل يعقل المسؤولون مصلحة بلدهم، أم سيستمر الانزلاق نحو هاوية صراعات جديدة؟