ترامب يرهن الملف الإيراني للأجندة الصهيونية !

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
أثارت سياسة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه إيران جدلاً واسعاً، خاصة بعد الضربات العسكرية التي استهدفت منشآت نووية إيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان في 22 يونيو 2025. هذه الضربات، التي جاءت كجزء من التنسيق المباشر مع الكيان الصهيوني، أثارت تساؤلات حول استقلالية السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يرى عارفون داخل واشنطن أن إدارة ترامب قد تخلت عملياً عن سياستها المستقلة تجاه إيران لصالح الأجندة {الإسرائيلية}، مما يعرض استقرار المنطقة لمخاطر جسيمة ويضعف فرص الحلول الدبلوماسية.
**تخلي عن الدبلوماسية لصالح العسكرة**
حذّر آلن إير، المفاوض السابق في إدارة الرئيس باراك أوباما ، والمتحدث آنذاك باسم الخارجية الأمريكية باللغة الفارسية ، من أن الولايات المتحدة، تحت قيادة ترامب، قد تخلت عن نهجها الاستراتيجي المستقل تجاه إيران لصالح دعم أحادي لإسرائيل. في تصريحاته، أشار إير إلى أن إعلان ترامب بأن البرنامج النووي الإيراني “قد دُمر” يعكس نهجاً متسرعاً يتجاهل تعقيدات الملف النووي والمخاطر المرتبطة به. ويتناقض هذا النهج مع السياسة التي اتبعتها إدارة أوباما، التي عملت عبر دبلوماسية معقدة مع القوى الكبرى للحفاظ على الاتفاق النووي لعام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، والتي سعت إلى تحقيق توازن بين المصالح الدولية والإقليمية.
في عهد ترامب، يبدو أن السياسة الخارجية الأمريكية قد أصبحت مرهونة بشكل كبير بالتنسيق مع رئيس الوزراء {الإسرائيلي} بنيامين نتنياهو، حيث أشار إير إلى أن المسؤول الأمريكي المكلف بالملف الإيراني، ستيف ويتكوف، منشغل بقضايا أخرى مثل غزة وأوكرانيا، مما ترك الملف الإيراني بلا متابعة جدية من واشنطن. هذا الفراغ الاستراتيجي مكّن {إسرائيل} من قيادة السياسة الأمريكية تجاه إيران، حيث أصبحت الضربات العسكرية، مثل تلك التي استهدفت فوردو ونطنز وأصفهان، الخيار الأساسي بدلاً من الحلول الدبلوماسية.
**الضربات العسكرية: انتصار تكتيكي أم فشل استراتيجي؟**
تنظر إدارة ترامب إلى الضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية، التي نُفذت باستخدام قاذفات “بي-2” وصواريخ “توماهوك”، باعتبارها إنجازاً عسكرياً بارزاً من الناحية التكتيكية، حيث ذكرت تقارير أمريكية أن المنشآت الثلاث تضررت بشكل كبير، خاصة فوردو التي وصفها ترامب بأنها “انتهت”. ومع ذلك، فإن هذه الضربات، التي تم الإعلان عنها كـ”لحظة تأريخية” للولايات المتحدة و{إسرائيل}، تثير تساؤلات حول جدواها الاستراتيجية. فقد أشار إير ، وقد كان لسنوات مسؤلاً عن القسم الإيراني في السفارة الأمريكية في دبي، إلى أن إيران لا تزال تمتلك قدرات صناعية ومعرفة تقنية تمكنها من إعادة بناء برنامجها النووي، وربما دفعها التصعيد العسكري نحو السعي الفعلي لامتلاك سلاح نووي كوسيلة للردع.
علاوة على ذلك، فإن قرار إيران إعادة تفعيل “المجلس الأعلى للدفاع”، الذي لم يجتمع منذ الحرب العراقية-الإيرانية، يعكس تصميم طهران على مواجهة الضغوط العسكرية وإعادة بناء قدراتها النووية والصاروخية. هذا التطور يشير إلى أن الهدنة التي أعقبت الحرب الدامية لمدة 12 يوماً ليست سوى توقف مؤقت، وقد تؤدي إلى جولة جديدة من التصعيد، مما يعرض استقرار المنطقة للخطر.
**إيران عند مفترق طرق: بين التحدي والتفاوض**
إيران اليوم أمام مفترق طرق استراتيجي، فهي قادرة على مواصلة تطوير برنامجها النووي رغم الضغوط الغربية والتهديدات، وتملك في الوقت ذاته أوراق قوة عديدة تجعلها غير مضطرة للرضوخ لابتزاز المفاوضات. وتشير معطيات من داخل طهران إلى أن القيادة الإيرانية ترى أن المفاوضات ليست السبيل الوحيد لتجنب التصعيد العسكري، بل إن ميزان الردع الذي راكمته طهران كفيل بفرض معادلة جديدة. أما ما يقال عن موافقة القائد الأعلى سماحة الإمام السيد علي خامنئي على مبدأ استئناف المحادثات، فهي تأتي من موقع قوة وحكمة، تعكس إدراكاً عميقاً لحساسية المرحلة وليس من موقع ضعف أو خوف.
ومع ذلك، فإن سياسات إدارة ترامب القائمة على منطق القوة والابتزاز العسكري أثبتت فشلها الذريع، إذ لم تُفضِ إلى أي اتفاق مستدام ولم تُضعف الإرادة الإيرانية. فالضربات التي نُفذت بتنسيق مكشوف مع الكيان الصهيوني لم تُنهِ برنامج إيران النووي، بل جعلته أكثر صلابة ورسّخت قناعة طهران بضرورة تعزيز قدراتها الاستراتيجية. أما تهديدات ما يُسمى بالترويكا الأوروبية بإعادة تفعيل العقوبات الأممية، فهي لا تعدو كونها ضغطاً إعلامياً لا يغيّر من الحقائق على الأرض، بل تكشف هشاشة الموقف الغربي وعجز واشنطن عن صياغة رؤية دبلوماسية موحّدة. في المقابل، تبقى إيران الطرف الأكثر تماسكا، تملك زمام المبادرة وتفرض إيقاعها على مسار الأحداث.
رهان خاسر على القوة
إن انحراف السياسة الأمريكية في عهد ترامب من الدبلوماسية المتوازنة إلى الارتهان الكامل للأجندة {الإسرائيلية}، كشف عجزاً استراتيجياً فادحاً. فبدلاً من البحث عن حلول عقلانية تحفظ الاستقرار الإقليمي، لجأت الإدارة الأمريكية إلى نهج متشدد قائم على التهديد العسكري، الأمر الذي لم يؤدِّ إلا إلى زيادة التوترات وتعقيد المشهد. هذا التوجه لم يغفل فقط طبيعة الملف الإيراني وتشابكاته، بل ارتد سلباً على واشنطن نفسها، مهدداً مصالحها ومصالح حلفائها. أما إيران، فقد أثبتت أن الضغوط لا تكبح إرادتها، بل تدفعها إلى تعزيز قدراتها النووية والدفاعية بوتيرة أسرع، لتؤكد مجدداً أنها لا تخضع لمنطق الإملاءات.
واشنطن أسيرة الأجندة الإسرائيلية
إن ترك الملف الإيراني رهينة بيد الكيان الصهيوني، كما أقرّ بذلك آلن إير، ينسف صورة الولايات المتحدة كوسيط دولي محايد، ويُضعف من قدرتها على قيادة أي مسار تفاوضي جاد. فالتركيز الأحادي على تلبية مطالب {إسرائيل} لا يهدد فقط مكانة واشنطن الدبلوماسية، بل يجرّها نحو عزلة متزايدة في المحافل الدولية، حيث تتصاعد الانتقادات من أطراف مختلفة، كان أبرزها تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من “دوامة لا تنتهي من الردود الانتقامية”. وفي الوقت الذي تتآكل فيه مصداقية واشنطن، تثبت إيران أنها الطرف الأكثر توازناً ورصانة في التعامل مع التحديات.
تصعيد أعمى يفقد واشنطن مصداقيتها
إن سياسة إدارة ترامب تجاه إيران، القائمة على التخلي عن الدبلوماسية والانخراط في مغامرات عسكرية بالتنسيق الأعمى مع الكيان الصهيوني، لم تجلب للولايات المتحدة سوى التوترات والفشل. هذا النهج لم ينجح في كبح قدرات إيران، بل زادها إصراراً على تعزيز خياراتها الاستراتيجية وتوسيع هامش قوتها الإقليمية. بينما تحاول واشنطن إظهار نفسها كقوة دبلوماسية، تكشف سياساتها المتهورة عكس ذلك، فتفقد مصداقيتها وتضعف قدرتها على إدارة الأزمات. في المقابل، تقف طهران واثقة عند مفترق الطرق، تملك أوراق القوة وتفرض معادلاتها، لتؤكد أن الحلول لا تأتي عبر الإملاءات والتهديدات، بل عبر اعتراف حقيقي بمكانتها ودورها الإقليمي.