أنصار الله… قوة الفقراء التي تربك الكبار

حوراء المصري:
اليمن، تلك الرقعة الجغرافية الواقعة في أقصى الجنوب الغربي من شبه الجزيرة العربية، ليست مجرد حدود على الخريطة، فهي أرضٌ ضاربة الجذور في أعماق التأريخ، صنعت حضارات كبرى وخلّدت ممالك عريقة مثل سبأ ومعين وحِمير، وشيّدت معجزات ما زالت شاهدة على عظمتها كـ سد مأرب الذي يُعد واحداً من أقدم وأدهش المنشآت المائية في العالم القديم.
ولم يكن موقع اليمن موقعاً عادياً؛ فموقعها الاستراتيجي منحها حضوراً دائماً في معادلات المنطقة، فهي جسرٌ طبيعي بين القارات، ومفتاح بحري يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، كما أنها من أوائل الأقاليم التي دخلت الإسلام طوعاً، ليغدو أهلها حملةً للدين ورسلاً له في أصقاع الأرض.
اليمن المقاوم
منذ بدايات ما كان يعرف بـ الصراع العربي – الإسرائيلي، لم تغب اليمن عن الساحة النضالية. فمن جبال صعدة إلى شواطئ غزة امتدت يدها نصرةً للمقاومة، لا بالشعارات وحدها، بل بالفعل العملي الذي يترجم العروبة الحقيقية. فمنذ حرب 1948 كان اليمنيون في طليعة من هبّوا لنصرة فلسطين رغم تواضع إمكاناتهم العسكرية.
وقد جاء هذا الدور امتداداً لتأريخها العريق، ونتيجةً لموقعها الحيوي وبعدها العقائدي والسياسي، ليتهيأ المناخ لنشوء حركة جهادية حملت اسم أنصار الله، رافعةً راية المقاومة ضد الهيمنة الأجنبية في الداخل اليمني، ومعتبرةً القضية الفلسطينية قضية إسلامية أخلاقية جامعة.
أنصار الله… صرخة المستضعفين
تشكّلت حركة أنصار الله، أو ما يُعرف إعلامياً بالحوثيين (في محاولة للتقليل من شأن اليمن وأنصار الله تحديداً ) ، عام 1992 كحركة سياسية إسلامية يمنية تنتمي إلى المذهب الزيدي، بعد شعور عميق بالتهميش والإقصاء داخل الجمهورية اليمنية، ورؤية واضحة لهيمنة خارجية تنهب خيرات البلاد.
ارتكز خطاب الحركة على المقاومة ضد الهيمنة الأجنبية، ولا سيما الأمريكية والإسرائيلية، وتجلّى ذلك في شعارهم الشهير: “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، النصر للإسلام”.
وكانت أهدافهم واضحة:
• مكافحة التهميش السياسي للزيدية.
• مواجهة التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
• اعتبار دعم القضايا الإسلامية، وعلى رأسها فلسطين، واجباً دينياً وأخلاقياً.
ورأت الحركة أن الحرية الوطنية في اليمن لا تنفصل عن المقاومة العربية ضد المشروع الصهيوني، وأن فلسطين جزء أساسي من معركة الأمة ضد الهيمنة الغربية.
سنوات الحصار والحروب لم تُضعف اليمن بل صقلت قدراته، فامتلك أنصار الله:
• صواريخ باليستية قصيرة ومتوسطة المدى.
• طائرات مسيّرة هجومية واستطلاعية.
• قدرات تكنولوجية واستخباراتية متطورة.
وبفضل ذلك لم يعد دور اليمن مقتصراً على حدود أرضه، بل صار فاعلاً في ميادين المواجهة الإقليمية، مشاركاً في المعركة مع العدو من بُعد.
صنعاء وطوفان الأقصى: مساندة مشرفة
حين انطلقت عملية طوفان الأقصى، وشهد العالم المقاومة الفلسطينية تباغت الاحتلال، كان اليمن حاضراً سياسياً وشعبياً وعسكرياً. لم تمنعه الجغرافيا البعيدة عن فلسطين من أن يكون جزءاً من المشهد، فخرجت في صنعاء وعدن وصعدة تظاهرات ووقفات احتجاجية أمام السفارات، مرددة الهتافات المؤيدة لغزة، وجامعة التبرعات لإرسالها إلى القطاع.
الإعلام اليمني لعب دوره بقوة، مسلطاً الضوء على جرائم الاحتلال في غزة، فيما نشط الشباب على وسائل التواصل لرفع الهاشتاغات المؤيدة، حتى صار الصوت اليمني أحد أبرز الأصوات في الفضاء الرقمي العربي والإسلامي.
أما قيادات أنصار الله، فقد ثبّتت موقفها العملي من القضية، فأكد السيد عبد الملك الحوثي أن اليمن جزء لا يتجزأ من محور المقاومة، مستعد لتقديم الدعم العسكري والسياسي متى استلزم الأمر.
البحر الأحمر… مقبرة السفن
موقع اليمن الجغرافي على مضيق باب المندب جعله يملك ورقة ضغط استراتيجية كبرى. فباب المندب شريان عالمي للتجارة يربط البحر الأحمر بخليج عدن، وأي تحكم به يعني القدرة على خنق خطوط الإمداد الدولية، بما فيها تلك التي تصب في مصلحة الكيان الصهيوني.
وقد استخدم قادة صنعاء هذه الورقة بذكاء، فشنّوا هجمات على سفن مرتبطة بالاحتلال أو بداعميه، موجهين رسالة صريحة: أي دعم للكيان سيواجه برد قاسٍ.
معركة البحر الأحمر لم تكن مجرد عمليات عسكرية، بل كانت إعلاناً رمزياً بأن اليمن شريكٌ فعلي في معركة فلسطين، وأنه رغم الحصار والفقر قادر على أن يُرعب “الكبار”.
صواريخ اليمن… تدك يافا المحتلة
لم تتوقف رسالة أنصار الله عند البحر، بل تجاوزتها إلى البر والجو. فقد أثبتت الصواريخ الباليستية والمسيرات اليمنية أنها دقيقة الإصابة، وأنها قادرة على الوصول إلى العمق الصهيوني.
هذا التطور العسكري وضع الكيان أمام معادلة جديدة: فالبعد الجغرافي لم يعد حاجزاً، واليمن صار قادراً على الردع والضغط كما تفعل قوى إقليمية كبرى.
اليمن… رمز الصمود والمشاركة الأخلاقية
لم يكتفِ اليمن بالدعم الإعلامي ولا بالشعارات، بل قدّم دعماً عملياً ملموساً للمقاومة في غزة. وبذلك أصبح رمزاً للصمود، إذ يشارك شعبه – رغم ظروفه الاقتصادية القاسية – لقمة عيشه مع المحاصرين في القطاع، معبّراً عن روح تضامن إسلامي أصيل.
إن دخول اليمن إلى خط المواجهة كشف أن مقاومته ليست حدثاً عابراً، بل هي جزء أصيل من معادلة القوة في المنطقة. فما عجزت عنه الحصارات والضغوط لم ينجح في كسر عزيمته، بل زادها صلابة، حتى صار إصرار أنصار الله على المقاومة كسراً لجبروت الغرب.
في نهاية المطاف، أثبتت أنصار الله أن اليمن ليس هامشياً في معادلة الشرق الأوسط، فهو لاعب أساسي في محور المقاومة، وقادر على مواجهة أي خطر مستقبلي سواء من الكيان أو من القوى الأجنبية المتحالفة معه. وهكذا تحول اليمن من بلد محاصر وفقير إلى قوة إقليمية تربك الكبار، وتكسر المعادلات، وتضرب المثل في الصمود والثبات.