القسم السياسي

إيران تسير نحو المفاوضات: تنبيه من مغبة الاعتماد على أمريكا

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

أبدت إيران استعدادًا حذرًا لإعادة تقييم نهجها تجاه مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب، وهو ملف يشكل محور الجدل في العلاقات بين طهران والقوى الغربية. هذا الاستعداد يأتي في وقت تعرضت فيه مواقع نووية إيرانية تحت الأرض لهجمات أمريكية في يونيو الماضي، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي والأمني. تسعى القوى الأوروبية، ممثلة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا (E3)، إلى إشراك إيران في حوار دبلوماسي يهدف إلى توضيح وضع مخزونها النووي، مع التركيز على استئناف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإعادة إحياء المفاوضات مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، يظل الموقف الإيراني متسمًا بالحذر والتشكك، خاصة في ظل تاريخ من عدم الثقة بالتعهدات الأمريكية والضغوط المتواصلة من الكيان الصهيوني.

 

الأبعاد الأوروبية والضغوط الدولية

 

في أواخر الشهر الماضي، قامت المجموعة الأوروبية (E3) بتفعيل آلية “فض النزاع” المنصوص عليها في الاتفاق النووي لعام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، وهي خطوة تهدف إلى الضغط على إيران لتقديم تنازلات بشأن برنامجها النووي. منحت هذه الآلية طهران مهلة مدتها 30 يومًا لاتخاذ خطوات ملموسة قد تمنع إعادة فرض العقوبات الأممية بالكامل، وهي عقوبات كانت قد رُفعت جزئيًا بموجب الاتفاق النووي. ردت إيران بموقف صلب، حيث اعتبرت هذه الخطوة غير قانونية وهددت بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو تهديد يعكس استراتيجية طهران في الحفاظ على أوراق القوة في مواجهة الضغوط الدولية.

 

هذا الموقف الإيراني ينبع من إدراك عميق للتحديات التي تواجهها في ظل التوترات الإقليمية، خاصة مع استمرار التهديدات من الكيان الصهيوني والهجمات التي تستهدف منشآتها النووية. إيران ترى أن الاحتفاظ بمخزونها من اليورانيوم المخصب هو ورقة نفوذ استراتيجية، تمكنها من التفاوض من موقع قوة في أي حوار مستقبلي. ومع ذلك، فإن الضغوط الأوروبية، إلى جانب العروض المغرية بتأجيل العقوبات، دفعت طهران إلى التفكير في إمكانية تقديم بعض التنازلات التكتيكية، دون التفريط بجوهر برنامجها النووي.

 

 المفاوضات الأخيرة: خطوات حذرة نحو اتفاق محتمل

 

في 5 سبتمبر ، عُقد اجتماع مهم في قطر بين وزير الخارجية الإيراني عباس عراقچي ومسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس. تناول الاجتماع تفاصيل اتفاق محتمل يهدف إلى نزع فتيل الأزمة النووية. تشير المعلومات إلى أن الاتفاق المقترح يتضمن التزام إيران بتقديم شفافية أكبر حول مخزونها من اليورانيوم المخصب، الذي يُقدر بحوالي 400 كيلوغرام قبل الهجمات الأمريكية والصهيونية في يونيو الماضي. كما يشمل الاتفاق جدولًا زمنيًا لتقديم تقارير دورية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى جانب وضع آليات للتحقق والتفتيش على المنشآت النووية، وذلك بموافقة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.

 

ومع ذلك، فإن إيران تربط تقدم هذه المفاوضات بضمانات أمنية صلبة، تشمل تعهدًا بعدم استهداف منشآتها النووية أثناء الحوار الدبلوماسي. هذا الشرط يعكس تجربة إيران المريرة مع الولايات المتحدة، التي انسحبت أحاديًا من الاتفاق النووي في 2018 وفرضت عقوبات قاسية، مما أدى إلى انهيار الثقة بين الطرفين. إيران تدرك أن أي اتفاق جديد قد يكون عرضة للانتهاك إذا تغيرت الإدارة الأمريكية أو تصاعدت الضغوط الصهيونية، وهو ما يجعلها مترددة في تقديم تنازلات كبيرة دون ضمانات ملزمة.

 

تحذير من الثقة المفرطة بأمريكا

 

التأريخ الطويل للعلاقات الإيرانية-الأمريكية مليء بالخيبات والوعود المكسورة. منذ الثورة الإسلامية عام 1979، واجهت إيران سلسلة من العقوبات والضغوط العسكرية والسياسية من واشنطن، مما جعل الثقة بالتعهدات الأمريكية أمرًا شبه مستحيل. الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 2018، على الرغم من التزام إيران الكامل ببنوده، والعدوان العسكري في يونيو حزيران الماضي، كان بمثابة ضربة قوية لأي آمال في بناء شراكة دبلوماسية. هذا التأريخ يدفع إيران إلى التعامل بحذر شديد مع أي مفاوضات جديدة، خاصة في ظل الدور النشط الذي تلعبه الولايات المتحدة في دعم الكيان الصهيوني، سواء عبر التسليح أو الدعم السياسي.

 

إن الاعتماد على وعود أمريكية بتخفيف العقوبات أو تقديم ضمانات أمنية قد يكون مخاطرة كبيرة. الإدارات الأمريكية المتعاقبة أظهرت تباينًا في سياساتها تجاه إيران، مما يجعل أي اتفاق عرضة للانهيار مع تغير الأوضاع السياسية الداخلية في واشنطن. علاوة على ذلك، فإن الدعم الأمريكي المستمر للكيان الصهيوني، بما في ذلك توفير أسلحة متطورة ودعم استخباراتي، يزيد من مخاوف إيران من أن أي تنازلات نووية قد تُستخدم ضدها في المستقبل.

 

التداعيات الإقليمية والدولية

 

إيران، من خلال نهجها الحذر، تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على قدراتها النووية كأداة ردع واستغلال الفرص الدبلوماسية لتخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية. في هذا السياق، تلعب روسيا والصين دورًا محوريًا كحلفاء استراتيجيين لطهران. روسيا، على وجه الخصوص، دعمت تأجيل تفعيل آلية التصعيد في مجلس الأمن، مما منح إيران مساحة للمناورة. كما تسعى إيران إلى استغلال هذا التأجيل لدفع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إصدار قرار يدين الهجمات على منشآتها النووية، مما يعزز موقفها القانوني والسياسي في المفاوضات.

 

على الصعيد الإقليمي، تواجه إيران تحديات كبيرة من الكيان الصهيوني، الذي يواصل تهديداته العسكرية ويحاول عرقلة أي تقدم في المفاوضات النووية. هذه التهديدات تدفع إيران إلى تعزيز قدراتها الدفاعية، بما في ذلك الاحتفاظ بمخزون اليورانيوم المخصب كورقة ضغط استراتيجية. في الوقت ذاته، تسعى طهران إلى تعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، مثل قطر وتركيا، لخلق تحالفات إقليمية قادرة على مواجهة الضغوط الغربية.

 

التحديات والفرص أمام إيران

 

تواجه إيران تحديًا معقدًا يتمثل في تحقيق التوازن بين الكشف عن تفاصيل برنامجها النووي والحفاظ على أوراق القوة ضد التهديدات المحتملة. الكشف عن تفاصيل المخزون النووي قد يُضعف موقفها التفاوضي، بينما الإبقاء على الغموض قد يزيد من الضغوط الدولية. ومع ذلك، فإن استعداد إيران للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية واستئناف الحوار مع واشنطن يفتح الباب أمام فرص دبلوماسية قد تؤخر العقوبات وتخفف العزلة الاقتصادية.

 

في الختام، يجب على إيران أن تظل حذرة في تعاملها مع المفاوضات النووية، مع التركيز على ضمانات أمنية ملزمة تحمي منشآتها من الهجمات المستقبلية. التأريخ يعلمنا أن الثقة بالولايات المتحدة قد تكون وهمًا خطيرًا، خاصة في ظل الدعم الأمريكي المستمر للكيان الصهيوني. إيران، بفضل صمودها وتخطيطها الاستراتيجي، قادرة على إدارة هذه الأزمة بحكمة، مع الحفاظ على سيادتها الوطنية وقوتها الإقليمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى