القسم السياسي

النظرة إلى التأريخ لدى أنصار الله

✍️مجاهد الصريمي صنعاء:

لعل أبرز ما حث عليه الشهيد القائد (ر) في سلسلة دروس من هدي القرآن الكريم هي: الكيفية التي يجب الانطلاق منها في التعامل مع التأريخ قراءةً وبحثًا، ولن يطرق باب أي مسألة تأريخية إلا وتجلّت للسامع والقارئ القراءة التأريخية المنصفة، وهي القراءة التي تبتعد عن أي أهواء طائفية ومذهبية، وتدرس حراك الشخصيات التأريخية المهمة والعظيمة على أنه حراكٌ هادفٌ لتحقيق غايات عليا أهمها رضا الله تعالى وتوحيده على الأرض، وإقامة العدل ورفع الظلم عن المظلومين مهما كانت مذاهبهم ومرجعياتهم الفكرية، لأن الظلم ومواجهته لا يختص بإنسان دون إنسان، كونه انطلق من صريح القرآن الذي يخاطب رسول الله في سورة الأنبياء آية (17) قائلاً: [وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين]. وماذا تعني الرحمة في ساحة العمل سوى توحيد الجبهات في وجه الظالمين والمستكبرين مهما كانت هوياتهم وانتماءاتهم؟! لأن الظلم والاستكبار لا يخص جهة دون جهة وفئة دون فئة.
إن منهجية المسيرة والمشروع الثوري لا تجرم ولا تنكر نقل الأحداث التأريخية، ولكنها تنكر تقديس هذه الأحداث والوقوف عندها بطريقة تبث الفتنة والفرقة وتضرب وحدة الصف، الأمر الذي يوجب علينا كمنتمين لهذا المشروع أن لا نتبنّى أي مسألة أو أحداث تأريخية إلا بعد أن نفكر بالأهداف لهذه الأحداث وغاياتها وعللها.
لن تكون قرآنيًا بحق إلا متى ما كانت نظرتك وثقافتك وأفكارك المستوحاة من التأريخ قائمة على القراءة المقاصدية والغائية المنصفة والبعيدة عن الأهواء والمنطلقات الشخصانية والمذهبية والطائفية، لأنها هي الكفيلة في أن تجعل من تأريخنا كتابًا زاخراً بكل ما من شأنه أن يمكننا من أن نبني مستقبلاً مشرقًا وحضارةً بناءة، ونخرج من أسر الأموات إلى سماء الأحياء لنرسم لهم الحاضر بأصالة الماضي وثقافة الحاضر، فلكل حقبة زمنية أهلها وهم المسؤولون عنها. وقد وجدنا القرآن يؤكد حينما يروي قصص الأولين على عدة أمور أهمها:
١ أخذ العِبر والدروس من تلك القصص.
٢ استلهام السنن والقوانين التي تحكم التأريخ.
٣ أن تلك الأمم لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وهو ما يعني عدم استجلاب الإشكاليات التأريخية في ذلك الزمن أو في الماضي إلى حاضرنا وعيشها دون الالتفات إلى تداعياتها ودراسة إشكالياتها وجذور نشأتها والفحص عن مكتنزاتها المعرفية، وعن مناهجها وفهم غثّها من سمينها والاستفادة من ذلك لحاضرنا، ولسنا معنيين بأفعالهم بل معنيين بالاعتبار منهم وأخذ ما يسير في الطريق المستقيم، وعدم تكرار ما قاموا به وأدى لتفتتهم واندثار هويتهم وحضارتهم ومكتسباتهم ومنجزهم المعرفي، والتعرف على صناع التأريخ الحقيقيين من المزورين له، لتوثيق المصادر ومعرفة الثقاة من غيرهم.
فالسنن التأريخية حتميات تقع مهمة تمظهرها كواقع على إرادة الإنسان واختياره، وهما العلة التي بها تكتمل العلة التامة، ومن يسير عكس السنن فإن سيره سيصل إلى نقطة مفصلية، لتنقلب ضده الأمور بعد ذلك وتعود المسيرة نحو سيرها الطبيعي.
إن النسبة التي تنتسب إلى الله، توجب كما يقول الشهيد القائد: التسليم بأن نحن تلاميذ في مدرسة الله، ووظيفتنا هي تبيان الحقيقة وإيضاحها، وطرح الآراء وضدها ومناقشتها، ومحاورة الجميع، وتوضيح المناهج والطرق في الوصول إلى الحقيقة، لا فرضنا لحقيقة نحن نراها، فالحقيقة كأصل ثابتة، لكنها ذات مراتب مشكّكة، وللناس قابليات مختلفة، ومراتب مختلفة في الإدراك والمعرفة، فأن تعطي للناس الوسيلة والمنهج والأدوات في كشف معالم الحقيقة، وتترك لهم الحق في التجربة والخطأ والتعلم والاعتبار، واكتشاف الآراء وتفنيدها، وامتلاك القدرة على النقد والتقييم بما يطوّر لهم عقولهم ويجعلهم يمتلكون مكنة وقدرة ذاتية في رد الشبهات، وتفنيد الآراء الفاسدة، والتحقّق من المعلومة والمعارف بطرق علمية تعتمد الدليل والبرهان، خيرٌ من تحويلهم إلى قطيع، أو تدجينهم وتلقينهم ما تريد، أو توجيههم بمناهج تفرضها عليهم كحقيقة مطلقة.
إن مدرسة الإسلام الأصيل تربي جنود علم في كل شيء، بعكس مدرسة الإسلام البشري، والنزعة الفرعونية المستبدة الطاغية المستكبرة، التي لا تريد سوى أن تربي جنودًا جهلة أجلافًا لا عقل لهم ولا إرادة ولا حرية كي يقرروا ويختاروا. فبالعلم ملك الأنبياء قلوب الناس، ونفذوا إلى عقولهم، بينما القوة والعسكرة الثقافية كانت منهج فرعون عندما قال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، وهي كلمة قالها في حضرة نبي الله موسى عليه السلام الذي رغم نبوته لكنه لم يتلفظ بما تلفّظ به فرعون الذي يعتبر نفسه مالكًا للحق والحقيقة، وله حق إقصاء كل رأي مخالف، وفرض ما يراه كسبيل أحادي للرشاد. وكان مصيره الغرق كمصير قوم نوح الذين عطّلوا عقولهم، واتبعوا كالقطيع منهج آبائهم وأجدادهم، فأغراقهم الله كفرعون لخطورة منهجهم في تعطيل العقل وإقصائه، وفرض منهجيتهم الأحادية بطرق ولغة القوة على المحيط.
إن ثقافة ومشروع مسيرتنا وحركتنا الجهادية الرسالية الثورية تحتم علينا العمل على أن نبني إنسانًا قادرًا على التعقل، ومدركًا لما يريد، ومختارًا له، في فضاء حر، لكن حرية منضبطة بمبدأ الدليل والبرهان ليست منفلتة، حرية علمية موضوعية تسعى لكشف الحقيقة لا تسعى لفرضها. والقرآن حاور وناقش وسمع كل الآراء تحت مبدأ قل هاتوا برهانكم، وليس أهواءكم وميولكم واستمزاجاتكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى