القسم الأول: من المولد إلى الشهادة (الجزء الأول)

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
الجذور العائلية والتربوية لقاسم سليماني في كرمان
وُلِدَ قاسم سليماني في شهر آذار/مارس عام 1957م في قرية «قنات ملك» التابعة لمحافظة كرمان، في أسرة متواضعة ومتديّنة. كان والده فلاحًا بسيطًا يعمل ليلًا ونهارًا ليؤمّن لقمة العيش الحلال لأسرته. نشأ قاسم في بيئة ريفية مشبعة بثقافة العمل والتقوى الشعبية والتعاليم الدينية التقليدية، فتشرّب منذ طفولته الصبر والكفاح، وغُرِست فيه روح المقاومة والاجتهاد.
في فترة مراهقته، انتقل سليماني إلى مدينة كرمان حيث عمل عاملَ بناء. وخلال تلك السنوات تعمّقت رؤيته لمعاناة الطبقات الفقيرة وظروفهم القاسية، وشهد عن قرب مظاهر الظلم الاجتماعي. وكانت نقطة التحوّل في مسيرته الفكرية والروحية انخراطه في الحلقات الدينية الثورية ومشاركته في التجمعات السياسية قبيل انتصار الثورة الإسلامية. هناك تشكّلت شخصيته كإنسان مؤمن ملتزم، وأصبح ناشطًا في تنظيم المظاهرات والحركات الشعبية خلال عامَي 1977 و1978م.
بعد انتصار الثورة وظهور الاضطرابات الداخلية، انضم سليماني إلى «حرس الثورة الإسلامية»، وسرعان ما عُرِف بصفته قائدًا ميدانيًا شجاعًا محبوبًا من جنوده ومحلّ ثقة قادته. مثّلت الحرب المفروضة بين العراق وإيران (1980–1988م) محطة حاسمة في حياته العسكرية والشخصية. تولّى قيادة قوات كرمان وفرقة «ثار الله 41» في جبهات الجنوب والغرب، وشارك في عمليات «والفجر» و«كربلاء»، وأظهر ذكاءً عسكريًا وبراعة ميدانية وروحًا جهادية فريدة. ارتبط بعلاقات وثيقة مع الشهداء أحمد كاظمي، محمد حسين همّت، مهدي باكري، وحسين خرّازي، وكان لا يكتفي بدور القائد بل يعيش مع جنوده في الخطوط الأمامية ويتقاسم معهم المعاناة.
بعد الحرب، أصبح سليماني من الشخصيات المحورية في هيكل «الحرس الثوري»، وبلغت تحوّلاته الاستراتيجية ذروتها عندما عُيّن قائدًا لـ«قوة القدس» في أواخر التسعينات. في هذا المنصب تحوّل من قائد محلي إلى مهندس محور المقاومة الإقليمي. بفضل بصيرته العميقة في شؤون المنطقة، نسّق علاقات استراتيجية مع فصائل المقاومة الفلسطينية، و«حزب الله» في لبنان، و«الجهاد الإسلامي»، و«أنصار الله» في اليمن، و«الحشد الشعبي» في العراق، و«الزينبيون» في باكستان و«الفاطميون» في أفغانستان، موحّدًا صفوفهم في جبهة واحدة ضد المشاريع الصهيونية والأميركية.
تميّز سليماني في هذه المرحلة ليس فقط بقدراته الميدانية، بل أيضًا بوعيه السياسي والعقائدي العميق. خطبه ورسائله إلى القيادة والمجاهدين في المنطقة وحتى إلى أعدائه، عكست رؤيته التوحيدية وتمسّكه بولايـة الفقيه ووفاءه لمبادئ الثورة الإسلامية. وبينما كان يقاتل في الميدان، كان يرسم بخُطاه منهج المقاومة الذي يقوم على الأخلاق والكرامة والثبات في وجه الاستكبار.
كانت سلوكياته الشخصية جزءًا لا يتجزّأ من هويته. عاش حياة بسيطة، محبًّا للشهداء، ملازمًا للدعاء والزيارة، قريبًا من أسر الشهداء والمستضعفين. وبالرغم من عظم مكانته العسكرية، بقي إنسانًا متواضعًا وروحًا عارفة رحيمة. كان يردّد دائمًا أنه لا يريد الشهرة ولا الألقاب، بل غايته الوحيدة الشهادة — وقد تحقّق حلمه في الثالث من كانون الثاني/يناير عام 2020م في مطار بغداد الدولي إثر الغارة الإرهابية الأميركية التي نُفِّذت بالتنسيق مع الكيان الصهيوني.