القسم الأول: من المولد إلى الشهادة (الجزء الثانی)

القسم السياسي:
دوران الحرب المفروضة ودورها في تشكيل شخصية قاسم سليماني
في منتصف عقد الأربعينيات الهجرية الشمسية، وُلد طفل في قرية قنات ملك التابعة لمقاطعة رابر في محافظة كرمان، سيؤثر مستقبلاً بعمق على مسار تحولات الشرق الأوسط. قاسم سليماني، ابن أسرة بسيطة وكادحة، نشأ في بيئة متدينة وثقافية، حيث كان الاحترام للدين والوطن والعمل يحتل مكانة خاصة. وقد لعب هذا الإطار التربوي دوراً بارزاً في تكوين روح حماسية ومتواضعة وصامدة فيه.
تزامنت فترة مراهقة سليماني مع تصاعد استياء الشعب ضد نظام الشاه. لكن ما شكّل نقطة التحول في شخصيته كان دخوله ميدان القتال في السنوات الأولى من الحرب المفروضة. الشاب قاسم، الذي بدأ كعنصر بسيط في الجبهة، سرعان ما لفت الانتباه بفضل انضباطه وشجاعته وذكائه العسكري، وفي وقت قصير تولى قيادة لواء 41 ثار الله، اللواء الذي ارتبط اسمه لاحقاً بالبطولات والتضحيات.
خلال الحرب، لم يظهر سليماني فقط كقائد ميداني، بل برز في أزمات معقدة مثل عمليات الفجر 8 وكربلاء 5 والعمليات الحدودية، حيث أظهر قدرة على التحليل الميداني واتخاذ القرار بسرعة وتحفيز الجنود. وقد عرف نفسه دائماً في الخطوط الأمامية مع قواته، وليس خلف مكاتب القيادة؛ هذا الأسلوب القيادي الميداني رافقه حتى نهاية حياته.
بعد انتهاء الحرب، اختار سليماني، بدلاً من التقاعد أو الانخراط في الهياكل الرسمية السياسية، مساراً جديداً: مواجهة التهديدات العابرة للحدود. في عقود السبعين والثمانين الهجرية الشمسية، عندما أزعجت القاعدة وطالبان ومن ثم داعش الأمن الإقليمي، تولى قاسم قيادة فيلق القدس، ودخل مجالاً يتطلب معرفة عميقة بالتطورات الإقليمية، والتفاعل مع مختلف اللاعبين، وإدارة ساحات عسكرية وسياسية وثقافية في الوقت نفسه.
من العراق إلى لبنان، ومن سوريا إلى أفغانستان واليمن، أصبح سليماني مهندس شبكة تُعرف اليوم بـ«جبهة المقاومة». لم يكن مجرد قائد للعمليات، بل كان معلماً ومستشاراً لقادة الفصائل المقاومة. في الاجتماعات الاستراتيجية، كان يقدم خططاً تعتمد على التحليل الاستخباراتي والفهم العميق للتركيبة الإثنية والدينية في المنطقة، غالباً ما تقلب موازين القوى ضد الأعداء.
شخصية قاسم سليماني كانت مزيجاً من العقلانية الاستراتيجية والزهد العملي. فقد استند في كلامه إلى القرآن الكريم، ودعاء كميل، ونهج البلاغة، بينما كانت تصرفاته تعكس التواضع والرحمة مع الناس والثبات أمام الأعداء. ظل جندياً حتى مع تواجده في صدارة الأخبار العالمية؛ ملابسه الترابية، وحضوره البسيط في ساحة القتال، ودموعه الليلية في صلوات التهجد، رسمت صورة فريدة لقائد روحي-عسكري.
حياة سليماني، من قرية قنات ملك إلى مطار بغداد، تحكي قصة رجل اخترق الحدود الجغرافية وامتلك القلوب. واستشهاده لم يكن نهاية المهمة؛ بل كان بداية فصل جديد في مواجهة الشعوب للاستعمار، وألهم جيلاً يعتمد على أبطاله المحليين بدلاً من الأساطير المستوردة.
الانتقال من القائد الميداني إلى مهندس جبهة المقاومة
شكل انتقال قاسم سليماني من قائد ميداني إلى مهندس جبهة المقاومة نقطة تحول في تطوره الشخصي والاستراتيجي. فقد اكتسب خلال الحرب خبرة واسعة في المعارك الكلاسيكية والحروب الشبحية، وبعد انتهاء الحرب، دخل مساراً لم يعد يقتصر على ساحات القتال، بل شمل الدبلوماسية غير الرسمية، وبناء الشبكات العابرة للحدود، والهندسة الاستراتيجية لمحور المقاومة.
في عقد التسعينيات الهجرية الشمسية، واجه سليماني تحولات ما بعد حرب البوسنة، واحتلال أفغانستان، وتعزيز الحركات التكفيرية. لكن ما عزز قفزته على المستوى الإقليمي كان توليه رسمياً قيادة فيلق القدس؛ المؤسسة التي تجاوزت حدود الدولة. على عكس القادة العسكريين البحت، تمكن سليماني في هذا الدور الجديد من خلق رابط ديناميكي بين الميدان والطاولة، بين العمليات والتحالفات، وبين السلاح والسياسة.
مع مرور الوقت، أصبح شخصية محورية في تصميم شبكات المقاومة في عدة دول: من إعادة بناء حزب الله بعد حرب 33 يوماً، إلى تنظيم الحشد الشعبي في العراق، وتعزيز استقرار الدولة السورية في مواجهة الحرب بالوكالة.