القسم الأول: من المولد إلى الشهادة (الجزء الثالث)

القسم السياسي:
لم يؤكد هذا النهج على قدراته العسكرية فحسب، بل أظهر أيضاً أنه بلغ مستوى من العمق والرؤية الاستراتيجية يسمح له بجمع الهياكل المعقدة والمتعددة في جبهة متماسكة.
في هذا الموقع الجديد، لم يعد سليماني مجرد قائد يصدر أوامر الهجوم؛ بل أصبح مهندساً يفهم بدقة الجغرافيا والتاريخ والدين والانقسامات الاجتماعية، ويكيف أدوات المقاومة وفق الظروف المحلية لكل دولة. لم يكتف بتشكيل الوحدات القتالية، بل بنى تحالفات عابرة للحدود، وعزز الاتصالات الإقليمية، ووسع القوة الناعمة لمحور المقاومة من خلال الإعلام والثقافة والتعليم.
هذا الانتقال من المستوى العسكري إلى المستوى الحضاري، دون التخلي عن هويته الثورية الأصيلة، جعل سليماني نموذجاً نادراً لـ«القائد المصمم»؛ قائد ظل مخلصاً للميدان، وفي الوقت نفسه أصبح لاعباً رئيسياً في أكثر المشاهد الجيوسياسية تعقيداً في المنطقة، وأسس إطاراً للمقاومة لم ينهار باستشهاده، بل أصبح أكثر انتشاراً.
تحليل الهيكل الفكري والعقائدي بناءً على أقواله وسلوكياته الشخصية
كان الهيكل الفكري والعقائدي لقاسم سليماني مزيجاً فريداً من التصوف العملي، والفكر الولائي، والواقعية الاستراتيجية؛ مزيج مكنه، وسط ميادين الدم والنار، من النظر إلى آفاق حضارية بعيدة المدى.
ما يميز هذا الهيكل هو الرابط بين سلوكه الشخصي ومهمته السياسية-العسكرية؛ رابط يمكن تتبعه ليس فقط في أقواله، بل في سلوكه، وتواصله مع الناس، وقراراته الميدانية، وتعامله مع العدو.
في صميم هذا الهيكل كان الاعتقاد الراسخ بولاية الفقيه والفهم العميق لـ«الإمامة في زمن الغيبة». كان ولاء سليماني للولي الفقيه ليس مجرد طاعة تنظيمية، بل يقيناً قلبياً وعقلياً. وقد شدد مراراً على أن فهمه الاستراتيجي للعالم الإسلامي، وجبهة الاستكبار، والنظام الإقليمي مستمد من منظور السيد آية الله خامنئي، ويرى نفسه امتداداً لفكره وقيادته. هذا الرابط حوله من مجرد قائد إلى «فقه الروح» وعنصر بصيرة، حيث كانت قراراته العسكرية منبثقة من رؤية عقائدية وإلهية.
كما كان سليماني في أقواله—سواء أمام الباسيج، أو في الخطوط الأمامية، أو في الاجتماعات الخاصة—يشدد دوماً على أن محور «الدين، وكرامة الإنسان، والولاء للمظلوم» هو أساس حركة المقاومة. ولم يكن عداؤه للأعداء ناشئاً عن كراهية عمياء، بل عن منظور تاريخي وعقائدي يرى أن الظلم والاحتلال والإذلال وتطبيع الشر ضد الفطرة الإنسانية.
كانت سلوكياته الشخصية تعكس هذا الفكر: البساطة في الحياة، البكاء الخفي في الدعاء، الاحترام العميق لعائلات الشهداء، والتواصل المباشر مع المقاتلين. ومع حسمه في الميدان، كان يظهر للناس جانباً عاطفياً، متواضعاً، ومحباً. كان بحق «جندياً للحق»، بدأ خدمته مع روح الله، واستمر حتى استشهاده في خدمة الولاية.
من الناحية المعرفية، كان سليماني من تلامذة مدرسة الإمام الخميني، التي ترى السياسة ليست أداة للسلطة، بل تجسيداً للواجب. وكان هذا المنهج مصدر العديد من خياراته الصعبة والدقيقة، بما في ذلك تعامله مع أزمات سوريا والعراق، حيث لم يركز فقط على الانتصار العسكري، بل على إعادة ثقة الناس بالدول.
يمكن تلخيص الهيكل العقائدي لحاج قاسم بجملة واحدة: لم يجعل المقاومة في خدمة الأيديولوجيا، بل جعل الأيديولوجيا في خدمة المقاومة. وهذا يفسر شعبيته بين الشيعة والسنة والمسيحيين وحتى غير المتدينين في المنطقة.