الجزء الثاني: سليماني وميادين القتال – الجنرال بلا حدود «الجزء الثالث»

القسم السياسي:
حلب: قيادة ليس معركة واحدة بل سلسلة معارك
في حلب، لم يقم سليماني بقيادة معركة واحدة، بل مجموعة معقدة من المعارك، حيث كانت الخطط تتغير يومياً. تجلت عبقريته على مستويات متعددة:
-
الحرب النفسية المستنزفة: استخدمت القوات المتحالفة أساليب حصار طويلة الأمد مع نشر معلومات مستهدفة عن هروب أو استسلام عناصر العدو، ما أضعف معنوياتهم.
-
تحريك محور المعركة: من خلال إدخال قوات مثل الزينبيون والفاطميون إلى الخطوط الأمامية، أربك خطوط الدفاع لدى العدو، إذ لم يتوقعوا مشاركة قوات خارجية ذات عقائد مختلفة.
-
هندسة المصالحة: في بعض أحياء شرق حلب، تمكّن القائد الميداني من تحرير المناطق بدون خسائر بشرية كبيرة، مستفيداً من مقترحات سليماني بالعفو والتسوية مقابل الانسحاب بأسلحة خفيفة. هذا الجمع بين القوة الصلبة والصبر الاستراتيجي يعكس عقلية مهندس ميداني، لا مجرد منفذ عسكري.
أمريلي: إعادة تعريف صمود الشيعة
كانت مدينة أمريلي الشيعية التركمانية في قلب محافظة صلاح الدين العراقية معرضة لإبادة وشيكة على يد داعش. بينما ظل العالم صامتاً، وكانت الحكومة العراقية مشلولة، والم powers الكبرى متفرجة، كان سليماني هو الوحيد الذي تحرك. بالاعتماد على الحشد الشعبي الناشئ وبالتنسيق مع كتائب حزب الله وغيرها، تدخل في الميدان.
كان الإبداع العملياتي يتمثل في “كسر الحصار من الداخل والخارج في وقت واحد.” قاد سليماني العمليات من ثلاثة محاور بالتوازي، مع تنسيق الدعم الجوي مع القوات الجوية الإيرانية والعراقية. كانت هذه أول تجربة واضحة للتعاون الميداني بين طهران وبغداد بعد سقوط صدام.
لكنه لم يكتفِ بالتحرير العسكري. بعد رفع الحصار مباشرة، أُرسلت قوافل من الطعام والمولدات الكهربائية إلى أمريلي، ليظهر أن المعركة ليست فقط لاستعادة الأرض، بل لاستعادة كرامة الناس وإرساء قاعدة اجتماعية للمقاومة.
في جميع هذه الساحات، اعتمد الإبداع العملياتي لسليماني على ثلاثية محددة: معرفة دقيقة بالجغرافيا، خلق التآزر بين مجموعات غير متجانسة، وتصميم العمليات استراتيجياً ونفسياً. هذا النهج جعله قائداً لم يُحاصر أبداً، بل كان يكسر الحصار دائماً.
المستندات الميدانية والصور الحصرية
إلى جانب الروايات الشفوية والتحليلات الإعلامية، ما يوضح الدور الحقيقي لسليماني في ساحات المعارك هي المستندات الميدانية والصور الحصرية، بعضُها نُشر لأول مرة بعد استشهاده، وبعضها لا يزال في الأرشيف. تؤكد هذه المواد قيادته العملياتية والاستراتيجية، وتظهر حضوره المباشر على الخطوط الأمامية.
في الصور المنشورة من معركة القصير، يظهر سليماني بالزي القتالي البسيط بجانب قادة المقاومة اللبنانيين والجيش السوري، ما يدل على أنه لم يكن في مراكز القيادة البعيدة، بل في قلب الخطر واتخاذ القرار. وقفته، حديثه مع المقاتلين، وطريقة نظره إلى الخرائط العملياتية تظهر إتقاناً دقيقاً وثقة استثنائية.
في أمريلي، حيث كاد الحصار التكفيري أن يخنق السكان، تظهر الصور سليماني وهو ينزل أولاً من المركبة المدرعة لاستقبال الناس. هذه الصور توضح أن التحرير بالنسبة لسليماني لم يكن مصطلحاً سياسياً، بل عملية حية وإنسانية وقلبية.
في البوكمال، تُظهر الفيديوهات والصور كيف عدّل خطط العمليات على الخطوط الأمامية وأصدر أوامر الحركة دون الاعتماد على سلسلة قيادة بيروقراطية. الوثائق المنشورة لاحقاً تؤكد أن أمر الهجوم النهائي صدر مباشرة من سليماني، وفي تلك الليلة تم تحرير البوكمال من داعش بمفاجأة تامة.
في حلب، تُظهر مقاطع الفيديو من ليالي الحصار الباردة حضوره بين شباب الفاطميون والزينبيون، هادئاً لكن مفعماً بالحماس. في أحد الفيديوهات، يقول لأحد القادة الأفغان: “في حلب، نحن جميعاً مدينون بدماء هؤلاء الأطفال الفاطميون.”
تشمل المستندات الميدانية الأخرى رسائل مكتوبة بخط يده لبعض المقاتلين، خطط عمليات مرسومة يدوياً، ومحادثات لاسلكية مسجلة في بعض العمليات. في إحدى الرسائل كتب للقائد: “إذا أردت نجاح العملية، عليك أولاً غزو قلوب الصبية، لا الأرض.”
تقدم هذه الوثائق والصور معاً صورة معقدة وإنسانية ومتعددة الأبعاد لسليماني، تتجاوز الكاريكاتيرات الإعلامية: قائد مقتدر، إنسان متواضع، أب روحي للمقاتلين، وتجسيد فلسفة المقاومة في شخص واحد.