مقالات الرأي

الجزء الثالث: الدبلوماسية في الميدان – مبادرة سليماني في هندسة الجبهات (الجزء الأول)

✍️ القسم السياسي:

 

الدبلوماسية في الميدان – مبادرة سليماني في هندسة الجبهات

في عملية تشكيل محور المقاومة، لم يكن التحدي الرئيسي في عدد الجبهات أو حجم المعدات، بل في كيفية تحويل هذا التنوع الهائل إلى قوة استراتيجية وموحدة قادرة على الصمود أمام التهديدات والتوسع في التأثير. في قلب هذا المشروع، ظهر الشهيد الحاج قاسم سليماني ليس فقط كقائد عسكري بارز، بل كمهندس سياسي في الميدان ابتكر أسلوباً جديداً من الدبلوماسية يُعرف باسم “الدبلوماسية الميدانية”. هذا النهج، الذي ربط العمل العسكري بالسياسة، مكن سليماني من تحويل التحديات إلى فرص، وبناء تحالفات غير تقليدية، وتحقيق انتصارات متزامنة على الصعيدين العسكري والسياسي.

كان الشهيد سليماني أكثر من قائد عسكري؛ فقد جسّد الدمج الذكي بين الدبلوماسية والقوة الميدانية، مثل خريطة ديناميكية من البارود والنار، حاضراً حضوراً حاسماً في قلب ساحات المعارك السياسية. استخدم الدبلوماسية بأسلوب جديد، ليس في القاعات المغلقة أو بابتسامات رسمية، بل بالاعتماد على حقائق الأرض، وتطورات الميدان، والمرونة في التحالفات، والثبات على المبادئ.

1. رابط ذكي بين السلاح والسياسة

كسر سليماني الحدود التقليدية بين العمليات العسكرية والدبلوماسية. فقد كان يقود ميادين القتال، ويشارك بنفس الكفاءة في المفاوضات السياسية. حضوره في الخطوط الأمامية أرسى الثقة مع المجموعات المختلفة، ونسّق القرارات، واستغل الانتصارات العسكرية لتحقيق أهداف سياسية أوسع.

من خلال هذا التكامل الذكي، وسع العمق الاستراتيجي للجمهورية الإسلامية من حدود إيران إلى سوريا وسواحل البحر المتوسط، متحققاً بفضل التواجد العسكري وبنظرة شاملة أعادت تعريف توازن القوى في المنطقة.

2. شخصية متعددة الأبعاد وشاملة

كانت شخصية الحاج قاسم مزيجاً من الذكاء الاستخباري، والحكمة العسكرية، والفطنة السياسية. بفضل معرفته بعلوم الحرب وفنون الدبلوماسية، استطاع إدارة العلاقات المعقدة مع مجموعات وقادة متنوعين في آن واحد، مما جعله محترماً حتى بين خصومه.

كان سليماني رمز القيادة الشاملة، شخصية أثرت في مجالات متعددة، وحققت ما لم تستطع الدبلوماسية التقليدية تحقيقه على الأرض.

3. هندسة التحالفات الميدانية غير التقليدية

استند نهج سليماني في بناء التحالفات إلى قبول التنوع. بدلاً من فرض توحيد إجباري، حافظ على هوية المجموعات المستقلة ونظمها ضمن إطار استراتيجي.

امتدت تحالفاته من لبنان إلى سوريا، العراق، البحرين، اليمن، وحتى المقاتلين الباكستانيين والأفغان. وكان مكانه يتجاوز منصبه الرسمي، إذ كان مرجعاً أساسياً بفضل سمعه الصاغية وفهمه العميق وقيادته الأخلاقية والسياسية.

تشكلت هذه التحالفات على أساس القيم المشتركة مثل السعي للعدالة والمقاومة ضد الهيمنة الغربية، دون التقيد بأي عرق أو دين محدد.

4. من مواجهة داعش إلى إعادة رسم خريطة المنطقة

في العراق، كان سليماني مهندس توحيد المجموعات المختلفة تحت لواء الحشد الشعبي، ولعب دوراً حاسماً في هزيمة داعش واستعادة الاستقرار.

في سوريا، بدعم الحكومة الشرعية والمساعدة في استعادة المناطق الحيوية، منع انهيار الدولة.

في لبنان، عزز المقاومة ضد الضغوط، وحوّل حزب الله إلى العمود الفقري لمحور المقاومة.

كانت هذه الإجراءات جزءاً من مشروع استراتيجي يهدف إلى تعزيز المنطقة ضد التفتت والهيمنة الأمريكية-الصهيونية.

5. الالتزام المطلق بخط ولاية الفقيه

كان سليماني مثالاً للتفاني الكامل في خط الإمام خامنئي. أمام تهديدات ترامب وعروض التفاوض، صرح بجرأة: “ترامب المقامر، أنا خصمك!”

كان هذا الالتزام ترجمة عملية لأهداف الثورة الإسلامية، مما زاد من شرعيته ونفوذه في المنطقة.

6. الدبلوماسية الميدانية: سليماني وهندسة جبهات المقاومة

مثال بارز على رؤيته كان العراق بعد عام 2014. في مواجهة داعش، لم يقتصر دوره على الدعم العسكري، بل شمل إقامة تفاهمات سياسية وإعطاء الأولوية للقتال على المشتتات الداخلية.

في سوريا، كان حضوره أكثر من دعم فني؛ فقد هدف إلى صياغة معادلات ردع جديدة تمنع سقوط الحكومة وتحد من توسع الأزمة.

في لبنان، نسق بدقة بين المقاومة ومتطلبات السياسة الداخلية والإقليمية دون المساس بالسيادة الوطنية.

لم تقتصر دبلوماسيته على التحالف مع الأصدقاء، بل امتلك فهماً عميقاً للأعداء. كان يعرف طبيعة أمريكا، ويميز زمن التصعيد وزمن إرسال الرسائل، ويزيد دوماً تكلفة العداء لمحور المقاومة.

نفذت العديد من مبادراته بصمت، مثل العمليات الخاصة، مما يعكس عبقرية هذه الدبلوماسية الجديدة؛ دبلوماسية تبدأ من الأرض، وتستمد قوتها من التوازن، وتثمر عندما يفشل الآخرون في تحقيق السلام العادل.

كان سليماني يعتقد أن الحرب والدبلوماسية ليستا متعارضتين، بل تكملان بعضهما البعض. فقد حول خطوط الاتصال إلى منصات تفاوضية، وأرض المقاومة إلى أدوات ضغط سياسية، وكتب برسائل الدماء التي لا تُقرأ بالحبر.

تتجاوز إرث الحاج قاسم سليماني انتصاراته العسكرية. من خلال الدبلوماسية الميدانية، جمع بطريقة غير مسبوقة بين السلاح والسياسة. بشخصيته الشاملة، وهندسته للتحالفات المختلفة، والتزامه الكامل بالولاية، أعاد تعريف المنطقة وجعل محور المقاومة قوة لا تقهر. مدرسة سليماني تظل نموذجاً حياً للأجيال القادمة؛ نموذج القيادة الاستراتيجية في مواجهة التحديات الكبرى. لم تكن شهادته نهاية نفوذه، بل بداية ترسيخ مكانته الأبدية كرمز فريد للمقاومة والمعماري الفذ للجبهات، ملهم الأجيال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى