تأملٌ في انقلاب مسار المعرفة داخل المنظمات وعِلّة “انعدام الخبرة التشغيلية”

محمد زرندي، دكتوراه في إدارة الأعمال
المقدمة
في ضجيج منظمات اليوم، يبدو أن بوصلة المعرفة قد تعطلت. فلم تعد المؤسسة هي المعلّم، بل أصبح القادمون الجدد هم من يضيئون الطريق. إنّ الخبرة، التي كانت يوماً ما كنزاً لا يُقدّر بثمن داخل أي منظمة، قد تراجعت أمام الشهادات الأكاديمية والحفظ النظري.
تتناول هذه المقالة نظرةً عميقة إلى هذا الانقلاب المقلق، ظاهرة إن لم تُعالج، فسوف تجفّ جذور الحكمة في تربة المنظمات.
نفورٌ جيليّ من الخبرة: تحدّي الأعمال المعاصرة
نشهد اليوم ظاهرة مقلقة في بيئة العمل: تدفّق المعرفة يسير بالعكس.
فبدلاً من أن تنتقل المعرفة من المؤسسة إلى الأفراد، أصبح الأفراد هم من يمدّون المنظمات بالمعرفة — لا ليتعلّموا منها، بل ليعلّموها. حتى إنّ الموظفين القدامى أو المديرين يتوقّعون أن يتلقّوا التوجيه من مرؤوسيهم!
أسمي هذا الوضع “انعدام الخبرة التشغيلية” أو “النفور الجيلي من التجربة”.
تُظهر دراسة العقود الأخيرة أن الجامعات في إيران، بدلاً من إعداد كوادر ماهرة جاهزة للعمل، انشغلت بإنتاج أعدادٍ كبيرة من الخريجين الذين يدخلون سوق العمل بتوقعات عالية وخبرةٍ ميدانيةٍ محدودة.
هذا الفاصل بين المعرفة النظرية والمهارة العملية لم يُضعف الإنتاجية فحسب، بل عكس مسار انتقال المعرفة، حتى أصبح الأفراد هم من يعلّمون المؤسسة بدلاً من أن يتعلّموا منها.
وما يزيد الوضع سوءاً هو ازدياد عدد من يعانون من هذا “الجهل العملي” من غير وعيٍ منهم، وهم يقفون بعيدين عن الواقع الاقتصادي، بثقةٍ زائفة ومطالبةٍ فارغة، يصرخون: “ليس هذا من شأني!”
في الأدبيات الأكاديمية يُسمّى هؤلاء “أصحاب البعد الواحد النظري” — أولئك الذين تعلّموا من الكتب دون أن يخوضوا تجربة ميدانية.
فتصوّر أن يكون مثل هذا الشخص مستشارك أو مديرك… أليس ذلك نذيراً بانهيار تلك الوحدة أو المؤسسة؟
وصفةٌ لعلاج “انعدام الخبرة التشغيلية”
-
يا أصحاب الفكر! توجّهوا إلى تعلّم المهارات الواقعية. فالعلامات العالية والحفظ وحدهما لا يصنعان النجاح. أحياناً تكون فترة التدريب القصيرة أو تجربة المبيعات هي أثمن ما في سيرتكم الذاتية.
-
انسَ عبارة “هذا لا يليق بي”. فالكرامة الحقيقية في الكفاءة والخبرة، لا في التمنّع عن العمل.
-
أيها الطلبة! خذوا التدريب العملي على محمل الجد، ليأخذكم سوق العمل بجدّية أيضاً.
-
إن عرفت شخصاً يعاني من “انعدام الخبرة التشغيلية”، فإما أن تبتعد عنه، أو تدفعه إلى أن يخرج من الهامش ويدخل ميدان العمل.
استمرار هذا المسار دون إصلاحات جذرية في نظام التعليم وسياسات الموارد البشرية، قد يؤدي إلى إضعاف رأس المال البشري الوطني وتقليل تنافسية المؤسسات على المستويين الإقليمي والدولي.
الخلاصة
إنّ هذه الظاهرة ناقوس خطر لمستقبل المنظمات ورأس المال البشري في البلاد. فعندما تنفصل المعرفة عن التجربة، تتراجع الإنتاجية، ويضلّ طريق النمو.
إصلاح النظام التعليمي ومراجعة سياسات الموارد البشرية أمرٌ لا مفرّ منه.
فقط من خلال إعادة وصل العلم بالعمل يمكن للمؤسسات أن تستعيد مكانتها الحقيقية وتسير نحو تنميةٍ مستدامة.