مقالات الرأي

رحلة إلى تاريخ الغد

✍️الدكتور سيد مهدي حسيني، الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية

 

إنّ إقامة دولة على أساس تعاليم الدين الإسلامي كانت ظاهرة فريدة لا مثيل لها في التاريخ المعاصر للعالم، وقد تجلّت في إيران من خلال واحدة من أعظم الثورات في تاريخ البشرية.
وهذا الحدث الجليل أصبح اليوم هدفاً لهجمات الأفكار السامّة المنتشرة في الفضاء الرقمي.
ويبدو أن التحدّي الأكبر الذي سيواجه الأمة الإيرانية العزيزة في المستقبل يتمحور حول هذا السؤال الجوهري:
كيف يمكن للجيل الناشئ أن ينظّم شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عالمٍ رقميٍّ، أهمّ سماته تأثيره الخفيّ والعميق في تفاصيل الحياة اليومية؟
إنّ أساس هذا التساؤل يكمن في التأثير العميق للثورة التكنولوجية في مجالي الإنتاج والاتصال على البنية السلوكية للجيل الجديد.

إنّ التحوّلات القادمة تفرض ضرورةَ التفكّر بما يتناسب مع مقتضيات هذا العصر،
ومن خلال جمع نتائج البحوث السوسيولوجيّة وتقديم مؤشّراتٍ واضحة، ينبغي إطلاق قطارٍ من العقول البصيرة والباحثين الواعين المهمومين بمصير الإنسان، لينطلقوا في رحلةٍ نحو تاريخ الغد.
أمّا المحرّك الأساس لهذا القطار فهو تراث الفكر السياسي عبر التاريخ، وحكمة المفكّرين المعاصرين، والسير بثباتٍ على سكّة علم السياسة.

الموضوع والغاية الأساس يتمثّلان في فهم طبيعة الحياة الرقميّة وما ينجم عنها من سخطٍ وتوتّرٍ ناتجٍ عن وجهها اليانوسيّ المزدوج، وذلك في مختبر تعاليم الدين الإسلامي.
إنّ التجلّي التدريجي لآثار الثورة التكنولوجيّة في ميداني الإنتاج والاتّصال على الثقافة والمجتمع – أي العالم الاجتماعي – يحتاج إلى تأمّلٍ عميقٍ وتفكيرٍ متأنٍ.

إنّ مراقبة مسار التحوّل السريع الجاري في البُنى الكلّية للحياة المعاصرة – المتمثّل في نزع الكليّة عن الحياة اليوميّة وتغيّر محتوى الحياة الذهنيّة والتجربة السياسيّة للإنسان – تجعل من الممكن توقّع غدٍ مليءٍ بالتحدّيات.

من جهةٍ، إنّ التحوّل التدريجي في منظومة الحاجات والطموحات، مقروناً بزوال الكلّيات الراسخة، سيجعل نظام الفضيلة المألوف موضع شكٍّ وتساؤل.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ اندثار القوالب النمطيّة الجندريّة وتبدّل النظام الهرمي للقيم سيؤدّيان إلى تراجع التماسك الروحي للمجتمع.

للخروج من بعض الأزمات المؤثرة في تاريخ الغد، والتي

أولاً: جذورها مباشرة في الرقمنة،

وثانياً: يمكن للمجال الرقمي أن يؤثر فيها تأثيراً أساسياً،

يجب التفكير الآن في حلول مناسبة؛ فالغد سيكون متأخراً جداً.

استمرار “جدالات حيدرية – نعمية والمنازعات السياسية المكلفة – الحزبية” أثر على طريقة ممارسة الدور السياسي والوعي السياسي لدى الجيل الجديد، وفي حالات عديدة:

الحل: هو التفسير العلمي وبيان المنطق الداخلي للثورة الإسلامية المجيدة في إيران. حين يتم فهم هذا الحدث العظيم بالشكل الصحيح وتقديم الدقة المتضمنة، والتي تُعد جزءاً لا يتجزأ من خطاب الإسلام السياسي الفقهي، بلغة الجيل الجديد، فإنه يصبح عملياً ترياقاً للكلمات السامة المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي وسحراً باطلاً يمنع تفكك واندثار “نظام الفضيلة التقليدي”.

من الواضح أن:

ابتكارات الثورة التكنولوجية في الإنتاج والاتصالات، التي لا يمكن للروح والفكر إدراكها بالكامل، لن تُكتشف بمجرد الأدوات والمعدات الميكانيكية. ومن هنا، قامت اللاهوتية بإعداد طرق وأساليب متعددة لتوجيه المجتمع بناءً على مبادئ الحكم، قادرة على رسم خارطة للخروج من بعض تعقيدات متاهة العصر الرقمي.

كما يقول جورجيو أغامبن في كتاب الوضع الاستثنائي:

«الاستراتيجية وجودية–لاهوتية–معرفية تهدف إلى صيد الوجود النقي في شبكة “اللوجوس”.»

المصطلح اليوناني Logos يعني الكلمة والعقل معاً، وفي القرآن الكريم، في سورة النساء، وُصف عيسى [عليه السلام] بأنه رسول الله وكلمة الله التي ألقيت إلى مريم [سلام الله عليها].

التأكيد على هذا المصطلح ليس مجرد تحليل اصطلاحي، بل يشير إلى تعقيدات الممر الضيق الذي لا يمكن لتاريخ الفكر تجاوزه. المعاني هي أفكار الجمل، والفكر بذاته غير محدود؛ ولكي يُفهم، يرتدي صورة الجملة الملموسة، وهكذا يُدرَك. كل جملة تعبّر عن فكرة، والعنصر الأساسي للجملة هو تجلّي لغوي للفكرة.

أحمد خالقي، في كتابه السلطة، اللغة، والحياة اليومية، يوضح استمرار الفكر النابض والقوي للدولة المبنية على التعاليم الدينية وانتقاله إلى تاريخ الغد على النحو التالي:

«يجب دراسة الفكر في مختبر ملموس، وهو اللغة، لكي يتكيف الأفراد ضمن مجال اجتماعي محدد بما يتوافق مع وظيفة هذا المجال.»

في العصر ما قبل الرقمي، كان معيار تقييم الخير والشر بيد الناس، وكانت المساجد والمحراب والإمام بمثابة مرشدين. ولكن اليوم، المنبر الرقمي يعزف لحنًا مخالفًا، متحديًا العديد من تطلعات الشعب الإيراني الكامنة. إذا لم تُدرس هذه النتائج من قبل الباحثين السياسيين قبل دخول المجتمع إلى تاريخ الغد، فقد ينفصل ذهن الجيل الجديد عن خبرات وتعاليم أول حكومة قائمة على الخطاب السياسي الإسلامي.

لقد كان التغيير النوعي للسلطة واستقرارها حول الدين والمحبة لآل البيت [عليهم السلام] في تاريخ إيران والدول المسلمة الأخرى حدثًا تاريخيًا مهمًا. كما يؤكد أحمد خالقي أن تحليل الفكر والاستعداد العملي للأفراد يمكنهم من التكيف داخل المجالات الاجتماعية بما يتوافق مع الأداء المناسب لتلك المجالات.

ومع ذلك، في العصر الرقمي، يمكن للابتزاز الإعلامي ومنطق الرقمية الحديدي أن يخلق فجوة بين السلطة الدينية وتطبيقها في الحياة اليومية، مما يضع الحكام الدينيين أمام تحديات جدية في أداء مهام اللاهوت السياسي. يقع مركز هذا التحدي في وادي السيليكون ومجال التكنولوجيا الرقمية، حيث يجب على الجيل الجديد التعامل بحذر مع البنية التحتية المعقدة للذكاء الاصطناعي أثناء التقدم نحو تاريخ الغد.

في العصر الرقمي، يمكن للابتزاز الإعلامي ومنطق الرقمية الحديدي أن يخلق فجوة بين السلطة الدينية وتطبيقها في الحياة اليومية، مما يضع الحكام الدينيين أمام تحديات جدية في أداء مهام اللاهوت السياسي. تصبح هذه الحالة خطيرة بشكل خاص عندما يدخل المجتمع إلى تاريخ الغد، حيث يجب على الجيل الجديد مواجهة تبعات التحولات الرقمية جنبًا إلى جنب مع التجارب التاريخية لأول حكومة قائمة على الخطاب السياسي الإسلامي.

إذا تم تجاهل هذه التبعات، فإن عقول الجيل الجديد ستبتعد عن الخبرات القيمة والتعليمات الدينية، مما يؤدي إلى نشوء حالة من الاستياء تجاه النظام الرمزي. لذلك، من الضروري أن يقدم الباحثون السياسيون المخلصون استراتيجية واضحة، مستندة إلى التحليل العلمي ومبادئ اللاهوت السياسي، لتوجيه الجيل الجديد نحو تاريخ الغد.

الهدف الرئيسي هو ضمان استمرارية الفكر الديناميكي والناضج للحكومة المبنية على التعاليم الدينية ونقله إلى الأجيال القادمة، بحيث يتمكن الأفراد من التكيف داخل المجالات الاجتماعية المحددة وتولي المسؤولية الاجتماعية بشكل ديناميكي وفعال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى