التحوّل الرقمي الكاسِر للتقاليد

الدكتور سيد مهدي حسيني، الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية
كما قال “أنتوني غيدنز” في كتابه الطريق الثالث:
«إن التقاليد تحتوي على حكمة الماضي المتراكمة، وبالتالي توفّر دليلاً للمستقبل.»
حقاً، إن حياة الرجال والنساء الذين لولاهم لكانت كلّ حادثة تاريخية مجرد أمرٍ عادي، هي أحياء وأكثر روحاً من حياة أولئك الذين يعيشون حياة آلية وروبوتية.
والآن، أولئك الذين يُفكّرون في بريق الكلمات وزخرفها يعتقدون أن التحول الرقمي لا يُثمر دائماً ثماراً حلوة، بل ربما يكون في ذاته مصدراً لعذابٍ دائمٍ للبشرية.
وكما هو واضح: في المسار العام الجاري، يبدو أن بعض تُجّار الفكر في شبكات التواصل الاجتماعي قد جلسوا “مكان الله” في مركز المعلومات ومستودع الوعي، ويسعون لاستبدال الأديان التي تؤمن بالفضيلة الإنسانية والروحانية والآخرة، بإيمانٍ جديد يقوم على التقنية السحرية.
وفي الوقت نفسه، كما قال “هلزي هال” في كتابه تاريخ وفلسفة العلم:
«إن المنهج العلمي لا يقتصر على الاعتماد على الملاحظة، وبسبب نقص الوعي الكافي بالماضي، فإن آثاره ناقصة.»
ذلك لأن:
«كلّ أمة لها تقاليدها وتجاربها التاريخية والاجتماعية والثقافية وأنماطها السلوكية الخاصة بها. كما أن الفلسفة الاجتماعية في كل مجتمع تحمل الطابع المحلي لذلك المجتمع، وحتى إذا كان هناك نية لتعديلها أو تغييرها، فإن الانتباه إلى الجانب المحلي وإيجاد الأساليب الأصلية يُعدّ ضرورة أساسية.»
وفي خضم اجتياح الرقمية الكاسرة للتقاليد، تقع المسؤولية قبل كل شيء على عاتق الجامعة. إن التهاون في أداء مسؤوليتها تجاه المجتمع الإيراني العريق، وفي واجبها المتمثل في تعريف الجيل الرقمي بقدرات هذه الأرض الخصبة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ستكون له عواقب خطيرة ومكلفة وغير قابلة للإصلاح — وهذا الادعاء لا يحتاج إلى برهان أو دليل.
حقاً، في يومنا هذا — ولا سيّما بعد الحرب ذات الأيام الاثني عشر التي شنّها الكيان الصهيوني ضد الأمة الإيرانية العظيمة — اجتذبت التقنية السحرية وتسارع الابتكارات الرقمية جميع الأنظار. وفي هذا الميدان الجديد المفتوح لمعركة العقول المحمومة، أصبح الإيمان الديني، للأسف، يتراجع إلى الهامش في فكر ودافع الجيل الناشئ.
وفي الماضي، مع بروز نتائج المراحل المختلفة للثورة الصناعية، لاحظ العديد من المفكرين — ومنهم نيتشه، وفرويد، وآرنت، وهايدغر، وغيرهم — بشكل دقيق التحول الفكري والاجتماعي الناتج عن “نقائص العلم الذي هو في حالة تجربة دائمة.”
وهنا الحديث عن حيوية ونماء منظومة الفكر. وبحكم العقل، يجب الاستفادة من كلّ ما يُمكنه أن يُثير الذاكرة الإنسانية في الحياة ويُحرّك روح الإنسانية نحو التقدّم، ويجب الحفاظ على ثماره.
ومع أن صدى أولئك المفكرين البارزين الذين أعلنوا أن «العلم الناقص قد يُبعِد الناس عن الدين والله» لا يزال يتردّد في تاريخ اليوم والغد، ولم يبرد حبّهم القديم رغم مرور العقود، إلا أن الهجوم العنيف لإنجازات العلم الرقمي، والأحكام المسبقة الاعتباطية، وإنكار مقوّمات الثقافة والأدب والكرامة، قد أدّى إلى أحكامٍ خاطئة وانتشار معتقداتٍ باطلة.
ولا أحد يسأل لماذا أصبح الزمان هكذا، ولا يقول بأيّ نهجٍ أو طريقةٍ يمكن للبشر أن يُنقذوا أنفسهم من حماقة هذا الوضع.
يبدو أن القدر المحتوم لـ «الإنسان الجديد» قد أصبح أن يظن، في ضوضاء الرقمية، أن نسجه الذهني وتخيّلاته هي حقائق طبيعية.
ولا شك أن إنكار الخصائص الثقافية للآخرين ليس أمراً جديداً. كما أشار نيل بوستمان في كتابه تكنوبولي: إخضاع الثقافة للتكنولوجيا:
«إن الإنسان المعاصر ساذج وسريع التصديق بقدر ما كان إنسان العصور الوسطى كذلك؛ ففي العصور الوسطى كان الناس يؤمنون إيماناً لا يتزعزع بسلطة الدين [والكنيسة]، ونحن اليوم نؤمن إيماناً لا يتزعزع بسلطة العلم.»
وبحسب ما توصّل إليه ريمون آرون في كتابه المراحل الأساسية لتطور الفكر في علم الاجتماع:
«لا يستطيع الإنسان أن يعرف العقل البشري إلا بشرط أن يلاحظ نشاطه وآثاره عبر التاريخ وفي المجتمع.»
إن الرجال والنساء العظام، وأعمالهم الخالدة، والمعالم التاريخية، إضافة إلى جانبها التراثي والعريق، تحمل أيضاً بُعداً معاصراً مهماً. ولا سيما في الحضارة الإيرانية والإسلامية القديمة، فإن كنز العسل الفارسي مليء بالحِكم والنصائح الهادية:
من لم يتعلم من تقلبات الزمان
لم يتعلم شيئاً من أي معلّم
وكذلك:
سيتعلمك السماء يوماً
تلك الدقائق التي تعلمناها نحن
وأيضاً:
رأيت أن المصلحة في أن يترك الأصدقاء كل الأعمال
ويأخذوا بطرف شعر الحبيب
وفي هذا السياق، فإن الشباب الإيراني الفهيم والذكي والبصير، الذين بعد أن قُذف بالعالم إلى العصر الرقمي، ولا سيما بعد دخول الإنترنت إلى إيران عام ١٣٧٢هـ.ش (١٩٩٣م)، قد اندفعوا إلى تجربة الحياة في عالم المعلومات الواسع، حيث يسمعون ويرون ويعلمون «كل شيء عن كل شيء»، يحافظون بكل وعي على شعورهم بالفخر والاعتزاز بتفوّق الثقافة الإيرانية والإسلامية الرفيعة من أضرار التحول الرقمي.
وخصال الذات، بحسب قراءة فريدريش نيتشه في كتابه إرادة القوة، أكثر إثارة للتأمل:
«إن حالات التفوق والقوة هذه تُفسَّر وتُعتبر تأثيراً من أسلافنا؛ فنحن نصبح أعظم حين نعمل وفق المعايير التي نألفها.»
وعلى الرغم من هذه الحقيقة، فإن التحول الرقمي الكاسر للتقاليد، أو أعجوبة الحضارة المعلوماتية، يسوق «آلة مؤامرة الويب» فوق المعايير القديمة المتجذّرة في خصال الإيرانيين الذين ظلّوا دوماً مرفوعي الرأس. وبينما لا يزال بعض القائمين على الأمور منشغلين في نزاعات «حيدرية – نعمَتية» أو خلافات سياسية – فئوية، فإن العقل المؤمن بالرقمية، من خلال تعليم نمط الحياة الغربي، يُحدث في الطبقة الجديدة نوعاً من النسيان السياسي غير العادي، الذي نتيجته تعريض السيطرة السياسية والاجتماعية للخطر.
الغاية هي احتلال ميدان الفكر ودوافع الجيل الجديد، وظهور النزاع العقائدي، وتعريض السيطرة والتسوية السياسية من أي نوع للخطر.
في الماضي القريب، كانت الوحدة السياسية والاجتماعية والعقائدية في هذا المجتمع وهذه الثقافة (العالم الاجتماعي) مضرب المثل بين الجميع، غير أنه بعد الحرب ذات الأيام الاثني عشر بقليل، لجأ «الرقمية الكاسرة للتقاليد»، بغرض نفي الخصائص الثقافية، إلى ممارسة المزيد من الضغط السياسي والأخلاقي على منظومة الفكر الإيراني والإسلامي.
ومن الطريف أن نذكر ما قالته حنة آرنت في كتابها وضع الإنسان:
«انعدام التفكير من أبرز سمات عصرنا.»
وقد أدّت المعرفة بهذه السمة إلى أن يكتب الفيلسوف صاحب الفكر والعمل والقلم قائلاً:
«المستقبل أشبه بقنبلة موقوتة مدفونة، غير أن صوت دقّاتها يُسمَع الآن.»
والرسالة المهمة في هذا «التيك تاك» التي تُظهر بصورة عامة حال «الإنسان الجديد» في عام 2025 على أعتاب الدخول في الحضارة السايبرنيتيكية، هي بالنسبة للإيرانيين دائماً مرفوعي الرأس أن:
«العقود من دون سيف ليست سوى ألفاظ، ولم يوجد بعد بديل لـ “الحرب بوصفها الحكم النهائي” في الشؤون الدولية.»
ومن غير المرجّح أن الجامعة لا تسمع صوت هذا التيك تاك، لكن الغريب أنه على الرغم من تجنّب إنكاره، فإن مسألة المعرفة تظلّ ذات أهمية بالغة، لأن الجامعة هي الميدان الأهم لعرض الكفاءة وبنية السلوك الإنساني، الذي يُثبت أن «الإنسان ذو طبيعة إلهية.»
ومن البديهي أن توضيح ذلك «التيك تاك» وهذه الطبيعة هو ما يُنتظر من الجامعة قبل غيرها؛ وبرغم تقدير مكانة الأساتذة الفضلاء ومراتبهم، إلا أنه يبدو أن:
«في هذا العصر المتحوّل، لا تمنحنا معارفنا تشخيصاً للوضع الذي نعيشه، ولا تتيح لنا فهماً مشتركاً لما يجري، ولا تمكّننا من التنبؤ بتحولات المستقبل.»
الكلمة الأخيرة:
«إن نفي الخصائص الثقافية لأي قوم يُعَد في حكم نفي شأنه وكرامته.»
(رجائي؛ ظاهرة العولمة، حالة الشيء والحضارة المعلوماتية، ص 171)




