لماذا افتتحت الحكومة السورية الجديدة أوّل سفارة لها في المملكة المتحدة بدلًا من تركيا؟

نقلاً عن الموقع الإخباري «صداى سما»، هذه الأيام، يجري في العديد من وسائل الإعلام والدوائر السياسية في تركيا نقاشٌ حول هذا الموضوع: كيف ستتطور علاقات الحكومة السورية الجديدة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وإلى أي مدى ستكون الحكومة التركية مؤثرة في هذه المعادلة؟
تكمن أهمية هذا السؤال في أن وسائل الإعلام والصحف القريبة من الحزب الحاكم في تركيا، قد عرضت دائماً صورة عن سوريا الجديدة، بحيث يبدو أن مسؤوليها السياسيين والدفاعيين يتصرفون في كل شيء بناءً على مشاورات مع مسؤولي أنقرة.
وقد أعادت هذه الوسائل مرات عديدة، بحماسة كبيرة، ذلك الجزء من تصريحات دونالد ترامب الذي ادّعى فيه أن “مفتاح سوريا الجديدة موجود في تركيا وعند أردوغان”. ومع ذلك، أظهرت أحدث تصريحات المسؤولين الأمنيين في بريطانيا أنهم منذ عام 2023 أقاموا اتصالات مع فريق الجولاني في إدلب، وأن التحولات الجديدة في سوريا ليست مُهندسة في أنقرة.
وفي الوقت نفسه الذي تُناقش فيه هذه القضايا في وسائل الإعلام التركية، توجّه أسعد حسن الشيباني، وزير الخارجية في الحكومة المؤقتة لأحمد الشرع، إلى بريطانيا وأعاد فتح السفارة السورية في لندن.
لماذا لندن؟
كان كثير من المحلّلين يتوقعون أنه نظراً للعلاقات الوثيقة بين أردوغان وأحمد الشرع، ستُعاد أول سفارة لسوريا الجديدة في تركيا لا في بريطانيا. وقد قال الشيباني حول هذا الموضوع: “لقد أجرينا محادثات مفصلة مع المسؤولين الأتراك، واقتربنا من المرحلة التاريخية لإعادة فتح السفارة في أنقرة”.
وقال الشيباني في تصريحاته، خلال جلسة بعنوان “السياسة الخارجية لسوريا الجديدة” في معهد تشاتام هاوس في لندن:
“لم تعد سوريا دولة هامشية. هذا البلد مهم لكل دول العالم. العلاقات الحالية بين سوريا والولايات المتحدة تمضي بشكل جيد للغاية وستكون لها آثار إقليمية. كان لقاء رئيس جمهوريتنا مع الرئيس الأمريكي إيجابياً للغاية، وستُرفع العقوبات قريباً. في الأشهر الإحدى عشرة الماضية، غيرنا النظرة العالمية تجاه سوريا. سوريا الآن في مرحلة انتقالية، وبعد سنوات من الصراع تحتاج البلاد إلى الوقت لتُعبّر عن نفسها”.
وعندما سأله أحد الصحفيين لماذا عيّنت تركيا سفيراً في دمشق بينما لم تعيّن سوريا سفيراً في أنقرة بعد، أجاب الشيباني:
“إعادة هيكلة تمثيلاتنا الدبلوماسية في الدول المختلفة ليست ردة فعل عاطفية، بل تتم وفق برنامج قيد التنفيذ. ولتخفيف العبء عن القنصلية السورية في إسطنبول، افتتحنا قنصليتنا في غازي عنتاب. حصلنا على موافقة وزارة الخارجية التركية لهذا الإجراء. أمّا السفارة السورية في أنقرة فكانت مُستأجرة، لكن نظام الأسد قصّر في دفع الإيجار وفقدنا المبنى. مفاوضاتنا مع الحكومة التركية مستمرة. نحن قريبون من فتح سفارة سوريا في تركيا. بالطبع فإن مهمتنا وسفارتنا في تركيا مهمّتان لأن لدينا علاقات ممتازة مع تركيا”.
وتحدث الشيباني أيضاً عن روسيا قائلاً:
“كانت روسيا شريك النظام السابق ولعبت دوراً في زيادة معاناة الشعب السوري. لكن نهجنا تجاه روسيا براغماتي، ولا نريد مواجهتها. هدفنا الرئيسي التركيز على إعادة إعمار سوريا، ولا نريد أن تنخرط بلادنا خلال هذه المرحلة الحساسة في نقاشات السياسة الخارجية”.
وتدل الشواهد على أن الحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، عقب إعادة فتح السفارة في لندن، ما تزال تعتبر كسب الشرعية من الدول الغربية أولوية مهمة، وتسعى من جهة للابتعاد عن الصراعات الإقليمية، ومن جهة أخرى لكسب تأييد القوى الغربية.
ويُفسّر المحللون العرب والغربيون هذا الإجراء بأنه محور استراتيجي نحو الاعتراف الدولي والابتعاد عن الاستقطاب الإقليمي.
إن إعادة فتح السفارة السورية في لندن بعد 13 عاماً يُعدّ عودة رمزية إلى الساحة الدولية. ومن وجهة نظر فريق الشرع، تُعتبر لندن منصة دبلوماسية محايدة مقارنة بالعواصم الإقليمية.
لكن إعادة فتح سفارة في دولة مجاورة مثل تركيا أو الأردن أو لبنان يمكن أن تعني الانحياز لمعسكر إقليمي. ولهذا، يتجه الشرع والشيباني نحو الحوار مع الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي بهدف الحصول على دعم لإعادة الإعمار والاعتراف السياسي.
وبالتالي، فإن إعادة فتح السفارة في لندن تعبّر عن رغبة في تغيير صورة سوريا في العواصم الغربية وجذب الاستثمارات والدعم الدبلوماسي. كما يجب التذكير بأن الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني إم.آي.6 كشف مؤخراً أنه عبر وسيط إيرلندي، أجرى اتصالات منذ ثلاث سنوات في إدلب مع هيئة تحرير الشام.
وربما كانت دول المنطقة تتوقع أن تكون أولى السفارات السورية الجديدة في عواصم مثل أنقرة أو الرياض أو أبوظبي. لكن فريق الشرع فضّل بريطانيا، وقد ذكر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في تحليله أن “إعادة فتح السفارة خاصة في لندن، يعبّر عن التحول نحو الدبلوماسية والابتعاد عن الحكم العسكري”.
ويساعد هذا الإجراء الحكومة الانتقالية على تأسيس هوية دبلوماسية جديدة منفصلة عن إرث الأسد. أما من وجهة نظر الغرب، فهو يفتح قناة للحوار والمساعدة والتأثير في تشكيل مستقبل سوريا ما بعد الحرب.
ومن المعروف أن فريق السياسة الخارجية للشرع حصل في الأشهر الأخيرة على دعم واستشارات من هاكان فيدان وزير الخارجية التركي وإبراهيم قالن رئيس جهاز الاستخبارات، لكنه توصل في تقييمه النهائي إلى أن السعي للشرعية الدولية يكون أكثر فاعلية إذا تم عرضه في منصة مثل لندن وليس أنقرة.
وتركيا، رغم كونها حليفاً وجاراً قوياً، إلا أن الشرع يرى أنه بحاجة إلى دعم الولايات المتحدة وبريطانيا إضافةً إلى دعم أردوغان والدول العربية.
ومن وجهة نظر الحكومة السورية الجديدة، فإن بريطانيا تمتلك هذه الميزات المهمة:
– بوابة للنظام الغربي
– مركز مالي واستثماري
– ملاذ دبلوماسي آمن
ورغم العلاقات الجيدة بين أردوغان والشرع، يجب الانتباه إلى أن آلاف الجنود والشرطة الأتراك ما يزالون موجودين في سوريا، كما أن العديد من القضايا الأمنية المعقدة بين سوريا وتركيا لم تُحل بعد.
وفي الوقت نفسه، فإن السياسة متعددة الأوجه لتركيا تُشكّل تحدياً لفريق الشرع، لأن تركيا من جهة ترغب في الظهور كقائد لمسار السياسة الخارجية السورية، ومن جهة أخرى قلقة للغاية بشأن علاقات سوريا – أمريكا وسوريا – إسرائيل، لدرجة أن هاكان فيدان ذهب خلال زيارة الشرع لواشنطن ليفهم ما إذا كانت سوريا والولايات المتحدة متفقتين بشأن قضايا حساسة مثل قوات قسد الكردية، والوجود الإسرائيلي الاحتلالي في الجولان، وقضية الدروز، وهيكل سوريا المستقبلي، وما إذا كان من الممكن أن يتم تجاوز تركيا.
ويرى المحللون المحافظون القريبون من حزب العدالة والتنمية أن إعادة فتح السفارة السورية في لندن هو رمز لنية الحكومة السورية الجديدة الاندماج مع الغرب وخيار استراتيجي، وليس رفضاً مباشراً لأنقرة. لذلك، فإن الاستراتيجية الأكثر ذكاءً لتركيا في هذا الوضع تشمل التطبيع التدريجي من خلال استمرار الاتصال بين المسؤولين السياسيين والأمنيين، والتعاون الفني، وبناء الجسور متعددة الأطراف، والمشاريع الاقتصادية التجريبية.




