البنك العاطفي والدولار الزمني

الدكتور سيد مهدي حسيني، الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية
من جملة احتياجات الإنسان، الاحتياجات الفطرية كالحاجة إلى السموّ والاتصال والتعاون.
لقد دفع الهمّ الفكري وسعيُ المختصين في دراسة المجتمع إلى بيان التأثير العميق للتحوّل الرقمي، ممّا أدخل مفاهيمَ كـ «البنك العاطفي» و«دولار الزمن» في أدبيات العلوم الاجتماعية.
وعلى الرغم من أنّ هذا المنظور ينتمي إلى ماضٍ قريب، فإنّه يرسم أمام “الإنسان الجديد” أفقًا أكثر إشراقًا، ويدعوه إلى بناء مستقبلٍ أفضل.
إن القدرة التحليلية وقابلية التعميم والكفاية النظرية لهذه التركيبات الناشئة في تفسير أحداث الحياة اليومية تحتاج إلى توضيح.
وكما يشير «شایگان فر» في كتابه جماليات الحياة اليومية/ ديوي وفنّ البوب:
«إنّ الحياة تجري في بيئةٍ تتدفّق، والعالم مليء بالأشياء اللامبالية بالحياة بل والعدائية لها، ومع ذلك، إذا استمرت الحياة في جريانها، واتسعت وانفتحت مع استمرارها، فإنها قادرة على التغلب على العوامل المعادية والمخالفة.»
ووقود هذا الانتصار هو الاعتقاد بالطبيعة الإلهية في الإنسان.
هذا الاعتقاد هو الأساس الذي يقوم عليه البنك العاطفي، وهو الركيزة السلوكية للمحبة والتعاون، ويبرهن على أن لقلب الإنسان قوانين يعجز العقل عن فهمها.
وقد أظهرت نتائج بحوث عديدة أن:
«الإنسان يحتاج إلى هدفٍ نهائي، أو “هدف الإيثار”، كي لا يفقد عقله. فهذا الهدف يوجّه طاقة الأفراد في اتجاه واحد، ويُمكّنهم من تجاوز ذواتهم المنفصلة وإضفاء معنى على حياتهم.»
ومن منظور آخر:
«إنّ الإنسان خُلق للعمل لا للاستدلال، وإذا اختار فكرة ما، فذلك لأنه يرى أنّ التفكير أيضاً أسلوب آخر للحركة الحرة في العالم.»
إنّ التفكير الذي يُختار في منظومة البنك العاطفي بهدف الارتقاء بمعنى الحياة إنما هو حساب عاطفي يُودَع فيه “المحبة والصدق والوفاء بالعهد”. وأرباح هذا الإيداع هي الثقة والاطمئنان اللذان يمهّدان لارتقاء الثقافة والمجتمع (العالم الاجتماعي).
وأرقى نماذج هذا البنك العاطفي في المجتمع الإيراني تتجسد في مفهوم «الیاوَر». فمن خلال المنطق الداخلي لهذه الكلمة العميقة الدلالة يمكن العبور إلى الماضي القريب. ففي المجتمع الإيراني، وخاصة في عهد حكم الطاغوت الجائر حين كان ميزان الدولة والشعب يميل بقدر ما يزداد ثقل الدولة على حساب مكانة الشعب، كانت تقاليد التعاون اليارواني آليةً لتدبير شؤون الزراعة، ومراحل الزرع والسقي والحصاد، ورعاية المسنين، وتيسير حياة الشباب. بل حتى في الظروف القاسية، كان توفير علف الماشية والدواجن يستفيد من رصيد البنك العاطفي.
إن طرح «دولار الزمن» الذي أشار إليه «أنتوني غيدنز» في كتاب الطريق الثالث يشبه مفهوم «الیاور» في القراءة الإيرانية المبنية على الاعتقاد بالطبيعة الإلهية في الإنسان.
وكما عبّر أفضل خطيب في العالم من جامعة آرْهوس في الدنمارك بعباراته السلسة الواضحة:
«يُكافأ المتطوعون المشاركون في الأعمال الخيرية بحسب الوقت الذي يخصّصونه، ويتولى متطوعون آخرون مكافأتهم. يقوم نظام حاسوبي بتسجيل كلّ دولارٍ مكتسَب أو مُستهلَك، كما يضع الحسابات بانتظام تحت تصرّف المشاركين.»
إنّ وحدة التبادل في هذا النظام غير المالي هي «كمية الوقت المبذول». وهذه الفكرة المتجذرة في فطرة الإنسان تؤكد أنّ:
«وقت كل فرد ــ بصرف النظر عن موقعه السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي ــ يُقيَّم بقيمةٍ فوق مادية.»
وهذا المنظور لا يقف عند حدود المساعدة فحسب، بل كما يقول غيدنز:
«إذا أرادت السياسات الجديدة التعامل بشكل صحيح مع الوضع الجديد للعالم، فعليها أن تولي اهتمامًا خاصًا لمسألة فهم ذاتها للتنظيم السياسي.»
وفي هذا التنظيم، يكتسب الفعل القائم على المحبة أهميةً خاصة لفهم «شخصية الإنسان الجديد»:
«إنّ المجتمعات الصغيرة نادرًا ما تكون ضعيفة أو هشّة. يشعر الأفراد بأنهم محل اهتمام، ويساعد بعضهم بعضًا. والروابط التي تنشأ بينهم تظهر بوضوح أنّه—رغم وجود الاتجاهات المدمِّرة للمجتمع—يمكن إقامة علاقات دعمٍ متبادل.»
ومعنى هذه الروابط القائمة على المحبة، وفق قراءة «غريغوري جي. فيست وآخرين» في كتاب الشخصية:
«احترام الآخر والاهتمام برفاهه دون أي منفعةٍ متوقعة، هو محبة altruistic؛ وهو نوع من الحب الروحي الذي لا يعتمد على أفعال أو صفات الطرف الآخر، بل هو غير مشروط.»
والوجه الآخر لهذه الأهمية هو:
«أولئك الذين لا يعرفون الأمور كما هي فعلاً، ويأبون مواجهتها.»
ومن البديهي أنّ عنصر الاعتقاد والمعرفة مهمّان لأنهّما يتيحان تحليل السلوك الإنساني وتفسيره وتعميمه، وفهم الطابع الإلهي في الإنسان.
أما الأثر الاجتماعي لعدم معرفة هذه الطبيعة الإلهية، فكما تقول «هانا آرنت» في كتاب وضع الإنسان:
«إنّ بعض الناس يكتفون بكل لذة تمنحها لهم الطبيعة، ويعيشون ويموتون كالبهائم.»
وعلى الرغم من أن مظاهر العيش المترف والموت السعيد حقائق لا تُنكر، فإن مفهوم “دولار الزمن” والتعاون اليارواني قضايا أساسية توضّح فهْم المحبة غير المشروطة المستوحاة من «محبة الله للإنسان» في المجتمعات ذات الثقافات المختلفة.
ومن الواضح أنّ كل مجتمع يملك آلياته الخاصة للبقاء، وتعزيز الازدهار، وتسهيل التبادلات غير المالية المعتمدة على رأس المال الاجتماعي. وقد غيّرت وسائل الاتصال الجماهيري من طبيعة البيئة السياسية ونمط النشاط الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية والبنية الثقافية. لكن كما تقول آرنت:
«إنّ ما يحدد مصير مسألة الطاعة ليس علاقة الأمر بالطاعة بل عامل الاعتقاد، وعدد الذين يشتركون في ذلك الاعتقاد.»
النتيجة:
إن المنطق الداخلي للبنك العاطفي ودولار الزمن يوفران جوابًا مناسبًا لأحد الاحتياجات الفطرية للإنسان.
وكما يقول «فيست وآخرون»:
«مع أنّ الاحتياجات الفطرية أساسية وغير مكتسبة، فإن قوى الحضارة الجبّارة قادرة على تغييرها بل وإفنائها.»
وبخاصة بسبب التأثير العميق لوسائل الاتصال على حياة «الإنسان الجديد»، فإن أحد شروط التمتع بمجتمع صحي هو توسيع منهج البنك العاطفي ودولار الزمن وريادة الأعمال الاجتماعية واعتماد خدماته.
ومن خلال أرباح رصيد المحبة والصدق والوفاء بالعهد يمكن توفير ظروفٍ تساعد المجتمع والثقافة (العالم الاجتماعي) على اتخاذ خطوات أكثر ثباتًا نحو تحقيق الذات.
ومن الواضح أنّ أدوات الاتصال الحديثة حوّلت العصر إلى زمن التغيّر في عادات التقاليد، وأنّ العملاق المنبعث من مصباح السحر الرقمي قادر بسهولة على إخضاع البنك العاطفي.
وفي هذا البنك لا توجد نافذة لإيد




