“توماس براك يقلب الطاولة: هل السلام في الشرق الأوسط مجرد وهم؟

حوراء المصري
بينما تسعى الدول الكبرى لإنعاش ما يسمى عملية السلام المتعثرة، يخرج المبعوث الأمريكي توماس براك بتصريح هز الأوساط السياسية، لم يكن هذا التصريح الأول من نوعه، فلطالما تصدرت تصريحاته قائمة التصريحات الأكثر إثارة للجدل، فمن إهانته للصحفيين اللبنانيين من قلب قصر بعبدا وصولاً لآخر تصريحاته عبر شاشة سكاي نيوز، مع هادلي غامبل، في برنامج الحقيقة في 22 من الشهر الحالي، حيث وصف السلام في الشرق الأوسط مجرد وهم، فضلاً عن قوله إن ما يقوم به بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي بشأن الاعتراف بدولة فلسطين ما هي إلا حركة “غير مفيدة”.
كل هذه التصريحات والأقوال أثارت جدلاً واسعاً في الشرق الأوسط ولا سيما في ظل التوترات الإقليمية، فهل يعقل أن يكون كلام براك يمثل الحكومة الأمريكية التي لطالما أخذت من السلام غطاءً لتدخلاتها؟ فما قصة هذه التصريحات؟“
خلفية معقدة”
منذ تأسيس الكيان الصهيوني ومنطقة الشرق الأوسط تشهد اضطراباتٍ مزمنة، فالصراع الصهيوني مع الأمة حول فلسطين يتمدد بدلاً من أن يتبدد، فالكيان الصهيوني لا يتوقف عن ارتكاب المجازر بحق الغزاويين، فضلاً عن اتساع الانقسامات الداخلية الفلسطينية، وزيادة حركات الاستيطان، وعمل الاحتلال على تهجير أهالي القطاع ونقلهم لبلدان مجاورة كمصر والأردن. أما في لبنان فالأمر أكثر تعقيداً وغموضاً، فالساحة اللبنانية تشهد ضغطاً إقليمياً ودولياً بشأن سلاح حزب الله مما يوسع الاضطرابات والانقسامات في الداخل اللبناني، فضلاً عن الانهيار الاقتصادي الذي أصبح جزءاً عادياً من حياة اللبنانيين.
لا يقتصر الأمر على فلسطين ولبنان، كذلك سوريا تعاني اليوم من جمود سياسي، فالساحة لا زالت مفتوحة أمام التدخلات الخارجية كالكيان مثلاً، فهو يتربص لسوريا لفرض سيطرته عليها وتأمين حدوده معها، هذا ما تشهده المنطقة العربية في وقتنا الراهن.
لم يغب المجتمع الدولي عن هذه الأحداث، فتواصل الأمم المتحدة إطلاق الدعوات لعقد مفاوضات بشأن غزة، بينما تسير بعض الدول العربية ببعض الاتفاقيات كاتفاقية أبراهام. وسط هذا التناقض برز اسم توماس براك وهو المبعوث الأمريكي الخاص بحكومة ترامب لمنطقة الشرق الأوسط ولا سيما لبنان وسوريا، حيث اشتهر بالدبلوماسية والهدوء في التعامل، إلا أن تصريحاته الأخيرة قلبت هذه النظرة رأساً على عقب، فكشفت حقيقته الهجومية. ففي آخر تصريح له بيّن بقوة أن لا دولة عربية تستحق الثقة المطلقة، والأبرز أن الاعتراف بدولة فلسطين هو أمر غير مفيد. كل هذه التصريحات أثارت جدلاً واسعاً وفتحت الأبواب أمام تساؤلات عدة أبرزها: ما هي حقيقة الموقف الأمريكي من قضايا المنطقة؟“
توماس براك والتصريحات المثيرة للجدل”
منذ تولي براك منصب المبعوث الأمريكي لحكومة ترامب الجديدة بما يخص ملف الشرق الأوسط ولا سيما لبنان وسوريا، جذب براك الأنظار بطريقةٍ مثيرة للجدل من خلال أقواله بشأن الداخل اللبناني وسوريا وحكومتها الجديدة، إلا أن الأبرز من بين هذه التصريحات هو أن السلام مجرد وهم.“
براك: السلام وهم!”
بعد أن ظهر براك مع المذيعة هادلي غامبل في برنامج الحقيقة عبر شاشة سكاي نيوز، سألته سؤالاً حول النهاية المتوقعة للقضية الفلسطينية، أظهر براك بعض التعجب في بداية الأمر، إلا أنه أجاب بكل صراحة إنه لا يعلم إلى أين تؤول الأمور، ولكنه فجّر الحلقة بقوله: إننا عندما نذكر أن من خلال السلام سينتهي الأمر فهذا وهم. قائلاً: إن لا وجود للسلام، مبرراً الأمر بغطاء الشرعية مشيراً إلى أن كلاً من الكيان والفلسطينيين يمتلكون هذه الشرعية مما يدفعهم للدفاع عنها. كان هذا التصريح صادماً لغامبل حيث أبدت التعجب والحيرة من هذه الكلمات التي تخرج من شخص يمثل الإدارة الأميركية والتي تولت دائماً أمر تثبيت السلام بين الكيان ودول المنطقة.
لم يكتفِ براك بوصفه السلام بالوهم، بل كذلك انتقد مساعي بعض الدول الأوروبية التي تسعى للاعتراف بدولة فلسطين، واصفاً الأمر بأنه عملية غير مفيدة لا تغير أي شيء في الواقع، فالكيان الصهيوني يفرض وقائع يومية، فالاستيطان والانقسامات الداخلية بين الجهات الفلسطينية تصعّب عملية بناء دولة قادرة على قيادة ذاتها.
أما بما يخص لبنان فكان تصريحه صادماً جداً حيث بيّن أن الدولة اللبنانية غير قادرة على السيطرة على حزب الله، وأن الداخل غارق في الانقسامات الطائفية والسياسية، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية التي تسيطر على لبنان مما يؤخر قيام دولة فاعلة. كذلك أشار لنقطة مهمة أن أمريكا لن تسلح الجيش اللبناني ليقاتل الكيان، ولكن ممكن تقديم يد المساعدة للتخلص من حزب الله، مبيناً بكل وضوح أن إيران وحزب الله هم أعداؤه وواصفاً إياهم بـ”الأفاعي”. ظهر تحيز المبعوث الأمريكي بشأن لبنان حيث أبدى كرهه الواضح للمقاومة، محاولته إيصال رسائل مبطنة لحكومة لبنان بشأن سلاح حزب الله كانت واضحة جداً.
حول الأزمة السورية أظهر براك بكل صراحة أنه لا يرى حلولاً قريبة أو أي تشابكات دولية، مبيناً أن الأمر رهينة تفاهمات بين واشنطن وطهران وموسكو فضلاً عن أنقرة، مشيراً إلى أن هذه التفاهمات لا تلوح في الأفق فهي تواجه مشاكل وعراقيل.
إلا أن هذه التصريحات اللاذعة جعلت من المحللين ينظرون للأمر من عدة أبعاد: دبلوماسية، سياسية، إقليمية، لفهم إن كانت هذه التصريحات تمثل الولايات المتحدة أم مجرد رؤى شخصية نابعة من فكر براك؟“
تصريحات براك: بين التحليل والتأثير”
منذ الساعات الأولى لظهور هذه التصريحات الشائكة، بدأ المحللون يدرسونها من أبعاد مختلفة لفهم إن كان ما تفوه به براك يمثل حكومة ترامب أم مجرد آراء شخصية.
“البعد السياسي”
لطالما كانت الإدارة الأمريكية هادئة في تصريحاتها لتحافظ على مصالحها في المنطقة، حيث اعتمدت طرق الالتواء والنفاق، فظهرت كقوى كبرى تسعى لحفظ السلام بين الدول، فضلاً عن تدخلها بحجة المساعدة والمساندة الإنسانية ولحماية الأمن الدولي والإقليمي من الانهيار. كما حدث في العراق، فتدخلت بحجة الإرهاب وداعش الذي قامت بطهيه في مطابخها في واشنطن.
إلا أن ما تقدم به المبعوث الأمريكي توماس براك من جرأة في الكلام جعل بعض المحللين يقعون في حيرة أمام هذه التصريحات التي خرجت عن المألوف، متسائلين إذا ما كان هذا يمثل توجهاً جديداً لحكومة الولايات المتحدة.
بعض المحللين حللوا الأمر بطريقة مختلفة، حيث أفادوا أن هذه الحركة ما هي إلا محاولة من براك لمعرفة ردود الفعل الإقليمية والدولية، ولا سيما حول موضوع السلام والاعتراف بدولة فلسطين.
هذه التصريحات تؤثر بشكل سلبي على الساحة الدبلوماسية، فقد تؤدي إلى إضعاف الجهود العربية والدولية الداعمة لمبدأ حل الدولتين أو تلك التي تراهن على التطبيع لفتح آفاق أوسع في التعامل والتسوية مع الاحتلال. فحينما يعلن مسؤول أمريكي يتولى ملف الشرق الأوسط أن السلام ما هو إلا وهم، فهو بهذا يضعف أي مفاوضات يسعى لها الكيان وبعض الدول العربية المطبعة.
على الصعيد الإقليمي، فقد تُقرأ هذه التصريحات بشكل متباين بين رام الله وغزة وبيروت. ففي رام الله هي بمثابة صفعة للسلطة الفلسطينية التي لطالما بينت أهمية الدعم الأمريكي والأوروبي. بينما ستكون قوة معززة لخطاب المقاومة في غزة الذي لطالما أظهر أن لا جدوى للمفاوضات مع الحكومة الأمريكية، فهي لا تسعى إلا للخراب والدمار في المنطقة.
في بيروت ودمشق سينظر للأمر كعرض واقع ليس أكثر، وكأن أمريكا لا تملك حلولاً بل هي تعرض الواقع كما هو، فتبيّن العجز الذي يسيطر على الدولة السورية واللبنانية. كذلك قد تُفهم على أنها تهديد مبطن للداخل اللبناني، ولا سيما كونه تحدث عن عدم تسليح الجيش اللبناني ليقاتل الكيان.
كل هذه التصريحات بما تحمل من روح هجومية ونظرة دونية للمنطقة جعلت من أمل السلام والاستقرار في العملية السياسية يتبدد، كذلك عززت فكرة أن العدالة الدولية ما هي إلا ترهات وشعارات لا تطبق على أرض الواقع. إلا أنها حملت بعض الواقعية في التوصيف، فبينت حقيقة أن أمريكا لا تسعى للسلام والاستقرار في المنطقة، بل هي داعمة لكل ما يقوم به الاحتلال من مجازر مختبئة تحت غطاء الشرعية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تلقت الدول الإقليمية والدولية هذه التصريحات؟ ما هي ردود الفعل؟
“التصريحات وردود الفعل الإقليمية والدولية”
منذ ظهور براك بتصريحاته التي كانت بمثابة صدمة لبعض الدول، إلا أن الأهم من التصريحات هي ردود الفعل. فكيف تلقت بيروت وسوريا ورام الله هذه الكلمات؟ هل ستتغير المساعي الإقليمية أم تُستنكر فقط؟
قُبل هذا التصريح في بيروت ولا سيما من نبيه بري الذي تكلم بلهجة حادة رافضاً ما جاء به براك حول الجيش اللبناني، قائلاً:
“إن توصيف الموفد الأمريكي توم براك مرفوض بالشكل والمضمون، لا بل هو مناقض لما سبق أن قاله.”
بينما تلقى الأمر رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام بهدوء أكثر، مبيناً استغرابه من هذه التصريحات.
أما فلسطين فلم تظهر أي ردة فعل، ولكن من المتوقع أن تستنكر هذه الأقوال. إلا أن الكيان قد ينظر لهذه التصريحات كدعم حقيقي لما يؤمن به: أن لا حل للقضية الفلسطينية سوى فرض السيطرة والقضاء عليها. فالسلام لا يعمل في منطقة الشرق الأوسط، وقد تكون كلمات براك دافعاً جديداً لإكمال الكيان مجازره بحق الفلسطينيين في غزة.
أما المجتمع الدولي فسيأخذ الأمر كدافع للتمسك بمبدأ حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين.
اختلف الأمر بين ردود الفعل التي تمثل الحكومات والجهات السياسية عن ردود فعل الشعب والشارع، فضجت مواقع التواصل الاجتماعي بهاشتاغات منددة لما جاء به توم براك.
بينما نظر المحللون السياسيون للأمر كجرس إنذار يدفع الدول التي تم ذكرها في سياق تصريحاته أن تتوخى الحذر، بل وتفعل آلية الدفاع عن نفسها واستنكار أو رفض قوي لما جاء به براك. فالمحلل فيصل عبد الساتر بيّن بكل وضوح أن أي تهاون بشأن هذه التصريحات سيقابله تصريحات بمستويات أعلى. فأشار إلى أن الخطاب الأمريكي ليس مجرد رسائل دبلوماسية عابرة، بل هو من ضمن استراتيجيتها لخلق توتر وعدم استقرار داخلي.ف
في نهاية المطاف، إن جميع التصريحات التي ألقاها توم براك بينت أن الولايات المتحدة لم تكن يوماً تمثل الدور المسالم الذي يسعى لنشر الديمقراطية. فالرسائل المبطنة التي حاولت أمريكا إيصالها من خلال التصريحات المثيرة للجدل أصبحت واضحة جداً.
فتعبيره عن الواقع بطريقة تجرد المنطقة من الأمل جعل من الردود تتباين: فمنهم من بين استغرابه، ومنهم من رفض هذه الكلمات رفضاً قاطعاً، ومنهم من أخذ دور الصامت فلم يصدر أي تحرك أو استنكار للآن.
إلا أن الحقيقة الكامنة هي أن الطريق قد يكون طويلاً يحمل المزيد من التحديات، لكن التأريخ أثبت أن الأزمات مهما طال أمدها فهي ليست قدراً محتوماً.