في ذكرى الرحيل : “فقد الأحبة…… حسن نصر الله”

حوراء المصري
كنا نجلس في المنزل نترقّب الأوضاع الراهنة، حيث الكيان الصهيوني يقصف بيروت والجنوب وبعض مناطق البقاع، والجرحى والشهداء بالآلاف، ومشاهد الدمار تسيطر على شاشات التلفزيون، وكنا نتابع ردّ شبابنا المقاومين الذين لم ننسهم من الدعاء يومًا. فإذا بِنَا نسمع الخبر المفجع لكل محبٍ ومقاوم يدعم الخط الجهادي:
“يعلنُ الكيان الصهيوني استهداف الضاحية الجنوبية حيث يُرجَّح أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يجتمع ببعض القادة هناك.”
هذا ما نطقت به المذيعة الإخبارية نقلاً عن بعض الوسائل الصهيونية. دام الصمت للحظات، وإذا بأحدنا ينطق: “مستحيل، سيد المقاومة لا يموت، بالتأكيد هو حي يرزق، إنها دعاية”. أصبحنا نواسي أنفسنا ببعض الكلمات داعين أن يكون الخبر كاذبًا.
إلا أن البيان الذي سحق قلوب الملايين بأن السيد التحق بقافلة الشهداء موتًا مشرفًا على طريق القدس، جعلنا نسقط أرضًا؛ وقفت الدموع، وصَمَتَتْ المشاعر أمام هذا الخبر الصادم.
اليوم، ونحن نمرّ بالذكرى السنوية لاستشهاد سيد الحب والحرب نصر الله، لا يزال الكثير لا يصدق موت الحبيب؛ فلا زلنا نعتقد أن يومًا سيظهر على الشاشات بابتسامته المطمئنة الهادئة وبوجهه النوراني.
“نصر الله…….. مُرعبُ الكيان الصهيوني”
منذ تولّي السيد حسن نصر الله قيادة الحزب بعد اغتيال الأمين السابق عباس الموسوي، كان الكيان الصهيوني يعتقد أن اغتيال الموسوي سيضعف المقاومة اللبنانية، ظنّاً منه أن السيد حسن نصر الله شابٌّ غير محنَّك في السياسة والقتال. إلا أن هذا الاعتقاد تغيّر منذ اللحظات الأولى لتولّيه، حيث أظهر قوّة وصلابة في القتال، وتميّز بخطاباته الجريئة المحمّلة بالذكاء والحنكة.
بعد خوض حزب الله العديد من المعارك مع الكيان اللقيط ، ثبتَ أن رغم اغتيال الأمين عباس، ازدادت المقاومة قوةً وإصرارًا. فقد أكّد الاحتلال في خطاباته أنه نادم على اغتيال عباس الموسوي لأنه خلف بعده رجلاً لا يمكن كسره أو التعامل معه بعنجهية.
كان نصر الله منذ شبابه يقاتل مع المقاتلين في حركة أمل قبيل تأسيس حزب الله، وقد لاقى اهتمامًا وإعجابًا من المقاومين لما امتلكه من هدوء ورزانة، فضلًا عن الكاريزما الطاغية التي لطالما أسرت القلوب عبر الشاشة.
بقي نصر الله هاجسًا لنتنياهو والاحتلال بصورة عامة. والجدير بالذكر أن كلمات نصر الله يؤمن بها الشارع الصهيوني أكثر من كلمات رؤسائهم وحكومتهم، التي لطالما مارست التعتيم والتظليل فضلًا عن تضحيتهم بأبناء شعبهم على حساب المكاسب السياسية.
مما جعل الاحتلال أكثر خوفًا من وجود نصر الله هو تأثيره الكبير على معنويات الشارع الصهيوني، ما أثر سلبيًا على حكومة الاحتلال التي تعاني من عدم الاستقرار وضعف التأييد من اليهود في المناطق المحتلة.
لم يكن نصر الله قائداً عادياً ؛ فمن خلال ثقافته واختلاطه ببعض العلماء في حوزة النجف وحوزة بعلبك، وكذلك مع أفراد حراس الثورة الإسلامية أثناء تواجدهم في لبنان، كل هذه التجارب جعلت منه مخضرمًا في السياسة الداخلية والخارجية، ولا سيما في طريقة تعامله مع الكيان الغاصب. لم تسقط القضية الفلسطينية من خطاباته؛ فكلُّ خطابٍ يذكر فلسطين وأهل فلسطين، ولا سيما أهل غزة الأحرار.
لا ينسى الشارع اللبناني أفضال سيد المقاومة، فقد لعب دورًا كبيرًا وفعالًا في طرد الكيان الغاشم من الأراضي الجنوبية.
إلا أن كلّ هذه المراحل المفصلية التي حُفِرت في ذاكرة الشعب العربي ولا سيما اللبناني الموالي للمقاومة تحولت اليوم إلى ذكريات يعتصرها الحزن عند تذكّرها.
“واقعةُ الاستشهاد….. لا تزال لا تُصَدَّق”
27 أيلول من العام الماضي، يوم الفاجعة—هذا التأريخ الذي شكل لحظة حزن عميق لدى شعب المقاومة الذين ما زالوا لا يصدقون استشهاد أمينهم العام السيد حسن نصر الله، الذي رافقهم منذ عام 1982 حتى 2024. لطالما كان مصدر اطمئنان وقوة لكثير من الناس، داعمًا لأسر الشهداء ومحبًا لجميع الأطياف والأديان؛ حفَر اسمه في قلوب وعقول الشعب بفضل مواقفه المشرفة، فطرد الاحتلال من لبنان وجعل من الجنوب مصدر فخرٍ لكثير من الدول الداعمة لنهج المقاومة. تميّز بتعامله اللطيف في الداخل مع داعميه، بينما أظهر شراسة في التعامل مع الكيان الغاشم.
لا تخلو خطاباته من سيرة شهداء المقاومة والأسرى، الذين جعلهم أولوية قصوى في ورقة المفاوضات مع الاحتلال، حيث حرّر العديد من الفلسطينيين واللبنانيين من سجون العدو.
كان نصر الله لا يخشى اتخاذ أي خطوة مهمّة في الحرب ضد الاحتلال، وذلك لعلمه بدعم الشعب له ولقراراته رغم الضغوط والهجمات المتكررة والمتواصلة من الكيان الصهيوني التي راح ضحيتها أبناؤهم ومنازلهم؛ إلا أنهم لم ينقضوا عهدهم مردّدين دائمًا: “كلنا فداءٌ لك سيدي” و”أنا على العهد”. تراهم يحملون ثقةً عمياء في قائدهم الذي لم يخذلهم يومًا، ففضّل شعبه على نفسه وكرّس حياته فداءً ونصرةً للحقّ والقضية الفلسطينية.
فهل رأيتم يومًا قائدًا يحمل هذه الشهرة والمحبة من قبل الملايين؟ لا والله، لم تُبْصِر عيني أيٌّ من القادة العرب الذين تسنّموا مناصبٍ هذا المقام الشريف والعظيم. فنال سيدنا الشهادة ومات موتًا لطالما كان يتمناه، تاركًا وراءه إرثًا يُحتذى به. اليوم نصر الله ليس مجرّد قائد عابر يمرّ على المقاومة أو الساحة الجهادية مرور الكرام، بل هو نموذجٌ ورمزٌ للثبات والقوة، يسير على خطاه آلاف الشباب الحرّ المقاوم.
“نصر الله….. ذكرى لا تمحى”
أخيراً، إذا كان نتنياهو وحكومته يعتقدون أنّه استشهاد السيد حسن نصر الله قد كسر المقاومة، فيا لها من سذاجة! فرغم الفقد الكبير الذي أفجع قلوب المقاومة وشعبها، إلا أن المقاومة لا تزال صامدة أبية في وجه هذا العدو. فعلى الكيان أن يعي أنّ عند استشهاد قائد يولد بعده ألف قائد، وكما قال سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) وكرّرها سيد المقاومة دائمًا: (فَوَاللَّهِ لا تَمْحُو ذِكْرَنَا)، فنحن باقون وأنتم زائلون؛ وذلك بفضل الله الذي ربَط على قلوبنا بالإيمان واليقين المطلق بأننا الفائزون في هذه الحرب .