الجزء الرابع: سليماني والمرجعية – رابط خاص مع النجف وقم وطهران (الجزء الثالث)

القسم السياسي:
القائد الحاج قاسم سليماني: الحافظ خلف الكواليس لوحدة الشيعة
بصفته قائداً استشارياً، نسق الحاج قاسم سليماني مع القادة الدينيين والسياسيين في العراق لتعزيز جبهة المقاومة ضد داعش.
تحليل عام
كان ارتباط سليماني بالمراجع العظام في إيران والعراق مزيجاً من الاحترام المتبادل والتنسيق الاستراتيجي والدعم الروحي. في إيران، كجندي مخلص للثورة الإسلامية، حظي بدعم المراجع، وقد أكد في وصيته على دور العلماء في حفظ النظام. وفي العراق، كان تعاونه مع آية الله السيستاني وغيره من المراجع يهدف إلى حفظ الأمن ومكافحة داعش، ما أدى إلى صدور فتوى الجهاد الكفائي وتقوية الحشد الشعبي.
ومع ذلك، فسرت بعض المصادر الغربية والنقاد نشاطاته في العراق على أنه محاولة لتوسيع النفوذ الإيراني، وهو ما يتناقض مع الروايات الرسمية في إيران والعراق. يظهر هذا الاختلاف تعقيد دور سليماني في المنطقة، بينما تؤكد الوثائق والرسائل الصادرة عن المراجع في كلا البلدين دوره الإيجابي في الحفاظ على الأمن ودعم القيم الإسلامية.
الدور الخفي في الحفاظ على وحدة الشيعة بين طهران والنجف
كان الدور الخفي لسليماني في الحفاظ على وحدة الشيعة بين طهران والنجف من الجوانب الأقل مشاهدة ولكنه حاسم في مسيرته الاستراتيجية. بينما ركزت وسائل الإعلام غالباً على دوره الميداني، وتصميم جبهة المقاومة، والدبلوماسية الإقليمية، كان أحد إنجازاته الدائمة إدارة الفجوات المحتملة بين قطبي الشيعة الرئيسيين: الجمهورية الإسلامية في إيران والمرجعية التقليدية في النجف. حاول الأعداء استغلال هذه الفجوات لإحداث انقسام وإضعاف الجبهة الشيعية.
كان سليماني يدرك أن الوحدة داخل صفوف الشيعة، خصوصاً بين النجف وطهران، أمر حيوي للحفاظ على الإسلام الأصيل ومواجهة المشاريع الأمريكية-الصهيونية في المنطقة. لذلك، كان يعمل بهدوء وبدقة كوسيط ومستشار وحامل رسائل وأحياناً ضحى بنفسه لتقليل المسافات وتعميق الروابط بين المركزين.
أثناء احتلال العراق، حرص سليماني على ألا تتعارض التحركات السياسية للقوى القريبة من إيران مع مواقف المرجعية في النجف. وكان يكرر التأكيد للعراقيين: «الشرعية السياسية والأمنية والدينية لأي حركة في العراق تعتمد على نظر وموافقة المرجعية»، ليس من باب المصلحة بل من إيمان حقيقي بمكانة النجف التاريخية والفقهية.
حافظ على علاقة مستمرة ومحترمة مع مكتب آية الله السيستاني، ممهداً بذلك منصة فريدة للتفاهم في القضايا الحساسة مثل وجود القوات الأجنبية، وحفظ وحدة العراق، ومنع الفتنة الداخلية. هذه الفهم العميق لمكانة المرجعية أكسبه ثقة العلماء، حيث رأوه ليس مجرد قائد عسكري، بل أمين وصادق.
كما أقام سليماني روابط عاطفية وروحية خاصة مع شخصيات مثل آية الله العظمى محمد سعيد الحكيم وعائلة السيستاني، وكان يعرف أن شرعية الجهاد والاستشهاد والمقاومة تحتاج إلى موافقة المرجعية، وأكد ذلك في وصيته، مطالباً بالحفاظ على مدرسة النجف إلى جانب ولاية الفقيه.
الأهم أنه لم يسعَ أبداً لتوحيد النجف وقم. كان يرى الاختلافات ويحوّلها إلى جسور، بين قم والنجف، بين ولاية الفقيه والمرجعية التقليدية، بين الحرس الثوري والحوزة، بين الثورة والحوزات العلمية.
أعظم إرثه في هذا المجال هو أن المرجعية العراقية لم تشعر يوماً بالمنافسة أو التهديد من طهران. هذا الاحترام العميق، الذي ضمّنه الحاج قاسم، كان العائق الرئيسي أمام محاولات الأعداء لزرع الانقسام بين قم والنجف وطهران. وحتى بعد استشهاده، استُقبل جثمانه باحترام خاص من ممثلي المرجعية في مطار النجف، وكان من المقرر أن يصلي عليه آية الله العظمى محمد سعيد الحكيم، وهو دليل على العلاقة الدينية والتاريخية والعاطفية العميقة.
إرث الحاج قاسم: إعادة إعمار العتبات كممارسة جهادية
عندما يُذكر اسمه، تتجه الأنظار فوراً إلى ساحات المعارك ضد داعش في سوريا والعراق ولبنان، وإلى بطولات هذا القائد الثوري. لكن القليلين يرونه كمهندس ثقافي ومعمر حضاري. هذه البُعد، رغم قلة الحديث عنه، أساسي لفهم إرثه.
بعد سقوط صدام، توجه ملايين الحجاج الشيعة إلى كربلاء، ووجدوا أضرحة متهالكة، وصحون مهجورة، وشوارع مليئة بالخراب. فهم سليماني أن إعادة الإعمار ضرورة، فالعتبات ليست مجرد أماكن عبادة، بل مراكز حضارية ونقاط هوية.
تحوّل قائد المعارك إلى قائد مشاريع البناء والإعمار، وجعلها شكلاً من أشكال الجهاد: إحياء الكرامة، وإعادة النور إلى بيوت أهل البيت، وإصلاح ما أراد العدو تركه خراباً.
بدلاً من الاعتماد على المقاولين الرسميين، ذهب إلى الميدان مباشرة، جمع الرجال المخلصين، وفّر الموارد، وأطلق مشاريع ضخمة بُنيت ليس فقط وفق معايير فنية، بل بالإيمان والحب.