السودان وجحيمُ الاقتتال !

حوراء المصري
هنا، من داخل هذه الغرفة المظلمة القابعة في إحدى المناطق السودانية التي فتك فيها النزاع والقتال الداخلي، تجلس في زاويتها امرأة سودانية تئن بصمت، فالدموع تتسابق لحرق خديها.
نعم، حصل ما كان في الحسبان؛ سُلب أغلى ما تملك (الشرف)، وكل ذلك أمام أنظار أطفالها الذين لا تتجاوز أعمارهم الست سنوات.
هذا ما تعيشه النساء والفتيات السودانيات، فالانتهاك أصبح عادة يتغنى ويتفاخر بها هؤلاء القتلة، نعم، إنهم الميليشيات السودانية، أو ما يُعرف باسم قوات الدعم السريع.
يعيش السودان اليوم أسوأ الأوضاع التي قد تمر على بلد من البلدان. فمنذ أن بدأ النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والذي أسفر عن مقتل آلاف الضحايا وتهجير عشرات الآلاف داخليًا وخارجيًا، لم يقف الأمر عند حدود التهجير والقتل، بل تم تدمير البنية التحتية والمرافق الحيوية، وخاصة في مدينة الخرطوم وبعض المدن الرئيسة التي تمثل ثقلًا ومركزًا مهمًا في السودان.
فالسودانيون يعيشون أيامًا أشبه بالقحط، إلا أنه قحط من نوع آخر؛ قحطٌ مفتعل وممنهج من قبل الميليشيات.
السودان وحقيقة الاقتتال: من يقاتل من؟
إن ما يحدث في السودان هو قتال بين جبهتين؛ الأولى الجيش السوداني، وهو الجهة الرسمية التي تمثل الدولة داخليًا وخارجيًا، وفي المقابل هناك قوات الدعم السريع، وهي قوات شبه نظامية تأخذ دعمها من الخارج وبعض الجهات الداخلية.
بدأت هذه الاشتباكات في الخامس عشر من نيسان عام 2023، وكانت أولى بوادر الحرب الأهلية التي نشهد أشد أيامها اليوم.
إن مرحلة التصادم هذه بدأت بعد سقوط الرئيس الأسبق للنظام عمر البشير، حيث دخل بعد ذلك الجيش مع قوات الدعم في شراكة ضعيفة بهدف إسقاط النظام.
وبعد إسقاط البشير، تشارك الطرفان القيادة عبر تشكيل مجلس السيادة الانتقالي.
إلا أن الأمر أخذ اتجاهًا مغايرًا عندما طُرحت مسألة دمج قوات الدعم السريع مع الجيش السوداني في تنظيم عسكري واحد يتبع قوانين الدولة. لكن هذا المقترح لاقى رفضًا كبيرًا من قوات الدعم السريع، ولا سيما من قائدها المعروف باسم حِمِيدتي.
والجدير بالذكر أن هذه القوات تمتلك قوة وقدرات كبيرة بفضل الدعم الخارجي، فهي تمتلك أسلحة متطورة وطائرات مسيّرة وغيرها من العتاد المتقدم، مما جعل الجيش السوداني في حرب استنزاف طويلة.
وبعد أن ظهرت هذه القدرات العالية، طُرحت تساؤلات حول حقيقة هذه القوة: من هو الداعم الحقيقي لهذه المرتزقة؟
فهل ما جاءت به التقارير الغربية بشأن دعم الإمارات لهم في هذه الحرب هو حقيقة؟ أم مجرد اتهامات؟
قوات الدعم السريع: دعم إقليمي ودولي، والإمارات أنموذجًا
ظهرت على الساحة بعض التقارير الغربية التي تمحورت حول الحرب السودانية، إلا أن المثير للجدل هو تردّد اسم دولة الإمارات ضمن الكثير من هذه التقارير.
فما قصة الدعم الإماراتي لهذه المرتزقة؟
ذكرت صحيفة نيويورك تايمز عبر تقاريرها أن أبو ظبي زودت قوات الدعم السريع بمعظم الأسلحة المتطورة، كما أنها لعبت دور الراعي الأجنبي لهذه الميليشيات، فيما تكفل حلفاؤها الإقليميون في كل من تشاد وليبيا وإثيوبيا بتعزيز هذا النفوذ.
وتوجّهت الأسئلة حول الهدف من هذا الدعم، فأغلب المحللين أكدوا أن الدافع اقتصادي مادي، فالإمارات استثمرت في نحو 50 ألف هكتار من الأراضي السودانية، مما يُظهر نوايا أبو ظبي الحقيقية.
فعبر دعمها لهذه المرتزقة، أصبح السودان يعاني من مشاكل إنسانية مميتة.
ولم تغب الدول العربية عن هذا المشهد؛ فلعبت كل من مصر والسعودية دور الوسيط مع ميلٍ محدود لدعم الجيش السوداني، بينما كانت مشاركة قطر وتركيا سياسية محدودة.
السودان اليوم لا يعاني فقط من فراغ وصراع سياسي، بل كذلك من أزمات إنسانية متفاقمة.
عندما تُقتل الإنسانية في لمح البصر
إن الحالة الإنسانية في السودان في وقتنا الراهن أقل ما يمكن وصفها بالمزرية.
فعندما يُقتل الأطفال وتُنتهك الأعراض دون أي وجود للحياء أو القيم الدينية، فهنا نقرأ السلام على الإنسانية.
عندما ترى آلافًا، بل عشرات الآلاف من السودانيين، يهربون إلى المجهول غير عالمين بالوجهة التي قد تكون لهم غطاءً أو حماية من هذا الجور، تدرك حجم المأساة.
فالسودانيون يفترشون الصحراء ويتخذون من السماء غطاءً لأرواحهم الهاربة، وكل ذلك بسبب الانقسامات القبلية والسياسية، وخاصة في الخرطوم والفاشر التي شهدت نزوحًا جماعيًا للسكان.
وعندما تبصر تنظيمًا، أبسط ما يمكن وصفه بـ “الإرهابي”، يصور مجازره ويتفاخر بأفعاله الشنيعة، هنا تعرف أن الأمة العربية والإسلامية قد طُمرت بالتراب.
الفاشر… آخر معاقل الجيش السوداني وورقة ضغط بيد الدعم السريع
تقع الفاشر في إقليم دارفور، وتشكل منطقة استراتيجية تربط غرب السودان بشماله ووسطه.
وقد عاشت الفاشر حصارًا امتد لأكثر من 500 يوم بلا طعام ولا شراب ولا كهرباء.
إن المخطط الذي تسعى إليه قوات الدعم السريع هو السيطرة على الفاشر، علّها تنجح بفصلها عن السودان.
الفاشر منطقة حيوية في الجغرافيا السودانية، وما تم توثيقه من انتهاكات وجرائم بحق سكانها جعل المجتمع الدولي يخرج عن صمته ويعيد فتح الملف السوداني.
فاليوم تُعد الفاشر النقطة التي جعلت أنظار العالم تتجه إلى السودان، حيث وعد الاتحاد الأوروبي بمساءلة المسؤولين عن الانتهاكات التي طالت المدنيين، مؤكدًا أنه يدعم المحكمة الجنائية الدولية لجمع الأدلة وملاحقة المتورطين.
إن ما يجري في مدينة الفاشر يعيد إلى الأذهان مشاهد إقليم دارفور في بداية الألفية، حين اشتعلت الحرب الأهلية بين الميليشيات، مما أدى إلى تهجير وقتل الأبرياء.
وقد نقلت تلك الحرب الملف السوداني إلى المحكمة الجنائية الدولية، ووجّهت التهم إلى الرئيس الأسبق عمر البشير.
لكن التاريخ يعيد نفسه؛ فقد تكررت الفاجعة بأسماء وأطراف جديدة، وبدعمٍ إقليمي معلن.
فالجهات التي دعمت الميليشيات سابقًا، هي نفسها اليوم تقدم الدعم لقوات الدعم السريع، غير مكترثةٍ بأرواح الأبرياء، وكل ذلك طمعًا في موارد السودان.
السودان يصرخ مناشدًا العالم الإسلامي
إن ما يحدث في السودان ليس مجرد صراع سياسي، بل انتهاكٌ للدين والإنسانية معًا.
فالله سبحانه وتعالى فضّل الإنسان على سائر خلقه ومنحه الكرامة حتى في موته.
فعندما يُقتل إنسانٌ مسلم بطريقةٍ وحشية، ويُوثق ويُبث على الشاشات ومواقع التواصل، فاعلم أن العالم شارف على نهايته.
إن ما يجري في غزة والسودان ما هو إلا اختبار من الله سبحانه لهذه الأمة التي تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الانتهاك الشنيع.
وما يثير الأسى أكثر هو أن هذا الصراع وهذه الجرائم تُرتكب بدعمٍ من دولةٍ عربيةٍ إسلامية.
فلنشدد على كلمة إسلامية…
أين الإسلام من هذه الأفعال؟
هل الإسلام الذي تتبعه هذه الفئة هو نفسه الذي نتبعه؟
الإسلام الذي كرّم الإنسان، ولا سيما المرأة؟
فعندما نرى النساء والفتيات يُنتهكن أمام الملأ، نقف مذهولين…
فهذا ليس من الإسلام في شيء، بل همجية تختبئ تحت غطاء الدين لتشويه صورته عالميًا.




