المصدر ضدّ المصدر

الدكتور سيد مهدي حسيني، الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية
تُعَدّ الدراسات التحليلية للأحداث والظواهر الجوهرية والمصيرية من أولويات البحث العلمي. ومن بين هذه الظواهر التحوّل الرقمي وتأثير التكنولوجيا العميق، خصوصاً في مجال المعلومات، إلى جانب العودة إلى الرؤى الروحية والدينية.
ومن الواضح اليوم أنّه من وراء البحار وفي صحراء الوجود الرقمي الجماعي، ثمة فئة من “الملحدين الآثمين” تطلق كلماتٍ سامة ومؤذية ومدمرة ضدّ عقائد الشعوب المتدينة وإيمانها.
في العصر ما قبل الرقمي، ولا سيّما في النزاعات السياسية، كانت الكلمات تُستعمل كسلاحٍ وكمادةٍ مخدّرة وسامّة، غير أنّ تكافؤ الوسائل بين الخصمين كان يخفف من عمق الجراح الروحية والنفسية التي تخلفها.
أشار ألفين توفلر قبل نحو أربعين عاماً في كتابه الموجة الثالثة إلى خدمةٍ كانت تقدّمها شركة Telecomputing Corporation of America تُعرف باسم “المصدر“.
كما استخدم ريمون آرون في كتابه سنوات نهاية القرن استعارة “العملاق البارد” لوصف السياسيين الغربيين الذين انفصلوا عن المبادئ الأخلاقية — عملاق لا يتأثر بشيء، وأهدافه تختلف كما يختلف نظامه.
ولأنّ العملاق البارد لم يخضع يوماً لحقوق الإنسان ولا للأخلاق، فقد أصبح في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ أداةً محدّدة يبدو كأنها مأمورة بوضع خاتمها على الأمة الإيرانية الكبرى، لتترك – وهماً – أثرها في سلوك المجتمع وثقافته.
إنّ استعمال كلماتٍ لاذعة كأنفاس التنين ضدّ العبد الصالح لله الذي قال عنه الحاج قاسم سليماني:
“مظلوميتُه أعظم من صلاحيته”
أي القائد الديني والسياسي الأجلّ،
“الرجل الحكيم في الإسلام والتشيع وإيران والعالم السياسي الإسلامي اليوم”،
وخاصة بعد حرب الاثني عشر يوماً التي شنّها الكيان الصهيوني على الأمة الإيرانية العظيمة، إنما يُعدّ هجوماً رقمياً ظالماً يُطلق رصاص الكلمات السامة على رجلٍ مباركٍ بالفضل الإلهي.
إنّ تفسير هذا الهجوم المتواصل يستوجب تحليلاً سياسياً عميقاً.
فالوصول الفوري إلى كميات ضخمة من البيانات، والرسائل الخاصة، والصور المثيرة للعاطفة، يمكّن مرسِل الرسالة من تنظيم فكر المتلقّي ودوافعه وفقاً لإرادته.
ويا للأسف، إنّ ذنبنا أن عليّاً وحيد!
كما قال لسان ضمير الإيرانيين حافظ الشيرازي:
إنّ ألمي من الحبيب، وشفائي منه أيضاً،
قد فديتُ له القلب والروح معاً،
أقول الحديث سراً بين الأصدقاء،
وسينطق به الزمان أيضاً،
فإذا انتهت ليالي الوصال،
مضت أيام الفراق كذلك،
العالمان كلاهما شعاع وجهه،
قلتها ظاهراً وخفياً،
فلا ثقة بأعمال الدنيا،
ولا بسماءٍ دائمة الدوران.
ويا للأسف والحسرة، أن الجزيرة المسماة مركزاً فكرياً سياسياً تكتفي بالمشاهدة الصامتة لهذا الهجوم على منبع الإلهام العظيم في الإيمان والجهاد، ولا تنوي كسر صيام صمتها!
وأخطر نتائج هذا الصمت أن الحكم يفقد سلطته، والوالدان يعجزان عن التربية كما في الماضي، والمعلم والأستاذ الجامعي يفقدان نفوذ الكلمة.
إنّ كلمات العملاق البارد السامة أشدّ من حدّ السيف، تجرح أرواح الملايين من عشاق تلك السلالة الطاهرة.
بحسب التحليل العميق لـ مانويل كاستيلز في كتابه الانقطاع: أزمة الديمقراطية الليبرالية، اعتاد المحلّلون في أوقات الغموض أن يستحضروا غرامشي الذي قال:
“النظام القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية متعددة.”
إنّ خطورة كلمات العملاق البارد تكمن في أنها تُحدث شرخاً بين السلطة الدينية والوظيفة الاجتماعية لا يمكن رتقه بأي وعظ أو تفسير.
وفي تاريخ الفكر السياسي في الإسلام وإيران، لم يظهر سلاح أخطر من الإعلام الغربي على الدين والأخلاق.
ومن الواضح أنّ تطوير الثقافة الإيرانية الإسلامية في الفضاء الرقمي يعد من الأولويات الوطنية في مجال تكنولوجيا المعلومات، غير أن تأثير التقنية على المعلومة، وإنتاج المحتوى المنحرف، والهجوم على منابع الفكر الإسلامي تهزّ البنى الاجتماعية وتغيّر ملامح الثقافة.
إنّ ذلك “المصدر” يدسّ أفاعي الشكّ في عقول الجيل الجديد، وينشر الريبة تجاه التعاليم الدينية ومصادر الإلهام الروحي، وحتى الإيمان بحضور الذات الإلهية وتدبيرها في خلق العالم.
وبفضل قدرته الفائقة على تشكيل الوعي وإثارة الصراع بين القديم والجديد، تخلق التكنولوجيا نسياناً غير طبيعي وتدفع الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية إلى حافة الأزمة.
وخلاصة القول:
إنّ تلك الجماعة الكافرة قد أشهرت سيفها في وجه الدين والشريعة والفقه.
وفي خضمّ أظلم المؤامرات السياسية، فإن غياب الوعي بطبيعة التحوّل الرقمي لدى القائمين على التربية والتعليم يدفع الباحثين في الفكر والمجتمع إلى الاستشهاد بالمفكر الإيطالي الذي كتب من سجنه:
“إن الأزمة تدل على أن القديم يموت، والجديد لا يستطيع أن يولد، وفي هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية متعددة.” (شافاك، الحكمة في عصر الانقسام، ص 27)
إنّ تفشّي هذا الداء الاجتماعي العظيم المتولّد من “خدمة الحوسبة عن بُعد الأمريكية” يحتاج إلى حلّ عاجل، إذ إنّ أي تأخير في فهم طبيعة آلة المؤامرة الرقمية قد يدفع المجتمع الإيراني الشريف إلى عصرٍ مرعب تُخطئ فيه كلّ التنبؤات.




