مقالات الرأي

دبلوماسية الصحة العالمية

✍️الدكتور سيد حميد رضا قريشي – رئيس التحرير

 

ظاهرة العولمة في مجال الصحة مدينة للتطورات المبتكرة في القرن التاسع عشر وللاكتشافات المتعلقة بالعديد من العوامل الممرضة الرئيسية وعلم الأوبئة الخاص بها في أوائل القرن العشرين.

إن انتشار الأمراض وانتقالها دوليًا جعل الحاجة إلى تعزيز التعاون بين الدول لمواجهة هذه الأمراض أكثر وضوحًا.

تعود أسس إنشاء الأنظمة الصحية الدولية المعقدة إلى ما يقارب 170 عامًا. ومع بداية القرن العشرين، تم إنشاء أولى المؤسسات الصحية الدولية، مثل المكتب الصحي الوطني في الولايات المتحدة، ومؤسسة روكفلر، والمكتب الدولي للصحة العامة في أوروبا.

إن الانتقال السريع للأمراض عبر الحدود الدولية، وإمكانية انتقال الفيروسات الممرضة خلال ساعات قليلة من نقطة إلى أخرى في عالم بلا حدود، وما يصاحب ذلك من تهديد للمجتمعات والنمو الاقتصادي والتنمية، جعل الدول أكثر إدراكًا لأهمية إقامة علاقات دولية قوية في مجال الصحة في ظل المشهد الجيوسياسي سريع التغيّر.

تُعرّف الدبلوماسية غالبًا بأنها علم وفن إجراء المفاوضات وإقامة العلاقات الدولية من خلال تدخّل الدبلوماسيين المحترفين. وتُستخدم هذه المهارة عادة لتحويل الأهداف طويلة الأمد للدولة من إمكانية إلى واقع.

وبصورة أدق، تُعد الدبلوماسية الوسيلة العملية لتحقيق الأهداف عبر الحوار والتفاعل والمفاوضات والمقايضة. وهي وسيلة منخفضة التكلفة، عقلانية ومنطقية، قائمة على التواصل، وتهدف في معناها الواسع إلى الحفاظ على هوية الأمة وتعزيز مكانتها وسمعتها، والمساهمة في تحقيق أهدافها عبر أفضل الوسائل المتاحة. وقد أصبحت الدبلوماسية، كطريق لتحقيق المصالح طويلة الأمد من خلال المفاوضات والتعاون بين الدول، خيارًا مفضلًا لجميع الدول سواء المتقدمة أو النامية.

لقد وُضعت معانٍ كثيرة لمفهوم الدبلوماسية، وكُتبت مصادر وكتب كثيرة حوله. وتغيّرت هذه المفاهيم عبر الزمن، إلا أن ما ظلّ ثابتًا—خاصة مع ظهور الدول القومية—هو الحوار السياسي والمفاوضات بين الحكومات لحل النزاعات أو تشكيل التحالفات والاتحادات المؤيِّدة أو المناهضة للآخرين.

كانت غالبية التعريفات الكلاسيكية للدبلوماسية تتمحور حول الحرب والسلام وإبرام المعاهدات المرتبطة بهما. وبطبيعة الحال، لم يكن للشعوب والقضايا غير السياسية المرتبطة بها دور يُذكر في هذا النوع من الدبلوماسية. وبذلك أصبح تاريخ الدبلوماسية تاريخًا للتفاعل بين الدول وتعارض مصالحها وسعيها إلى حل هذه الخلافات عبر المفاوضات.

إن توسّع الدبلوماسية وظهور موضوعات جديدة نابعة من احتياجات العصر الحديث—وخاصة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية—أدّى إلى إعادة تشكيل هذا المجال. وأصبح مجال الصحة من أهم الاهتمامات للجيل الجديد بعد الحرب. فقد أدى إعادة تعريف دور الإنسان وإعطاء الأولوية لحياته ورفاهيته—جسديًا ونفسيًا—إلى نشوء مؤسسات دولية عديدة تهتم بإطالة عمر الإنسان وتحسين حياته.

وفي هذا السياق، أدى دمج مجال الدبلوماسية مع القطاع الصحي إلى ظهور مفهوم علمي جديد متعدد التخصصات يُعرف بـ دبلوماسية الصحة، وهو مفهوم فتح بابًا جديدًا للتفاعل السياسي بين الدول. وعلى الرغم من أن التعريفات التقليدية لدبلوماسية الصحة تشير إلى جهود مواجهة الأمراض العابرة للحدود التي تهدد النمو الاقتصادي والتنمية، إلا أن توسّع هذا المفهوم في العصر الحديث يستدعي تعريفًا أشمل.

فوفقًا للتعريفات الحديثة، تُعرّف دبلوماسية الصحة بأنها استخدام التفاوض والحوار والتعاون عبر الوطني بهدف تحسين صحة المجتمع العالمي على المستوى الكلي وتعزيز الأمن الصحي للأفراد داخل الدول. وبهذا تصبح الدبلوماسية منصة مناسبة لمعالجة أحد أهم احتياجات البشرية. في جوهرها، يركّز هذا المفهوم على تكريم الإنسان وصحته.

تهدف دبلوماسية الصحة إلى فهم الآليات السياسية التي تحكم قطاع الصحة، والسعي لتعظيم المصالح الوطنية ورفاه المواطنين بالاعتماد على مفهوم الصحة وتعزيزها بين الوحدات السياسية.

إن تقلّص الاعتماد على القوة الصلبة أو العسكرية للتأثير في سلوك الفاعلين السياسيين، واستبدال ذلك بالمفاوضات والحوار في مجالات جديدة ضرورية للمجتمعات، جعل قطاع الصحة واحدًا من هذه المجالات الحديثة التي تعكس احترام الإنسان وضرورة حمايته عبر الحد من الأمراض وتعزيز الصحة.

وقد أدّت التحديات العالمية المتعلقة بالصحة إلى زيادة الطلب على سياسات دبلوماسية أكثر تناسقًا ضمن إطار دبلوماسية الصحة العالمية، مما جعل الصحة العالمية أحد المكونات الأساسية للسياسة الخارجية والقوة الناعمة.

ومن أبرز الموضوعات التي حظيت بالاهتمام خلال العقدين الماضيين هو موقع النظام الصحي للجمهورية الإسلامية الإيرانية بين دول جنوب غرب آسيا. فمقارنةً بالعديد من دول المنطقة وخارجها، يتمتع النظام الصحي في إيران بمكانة مميزة، مما جعل البلاد واحدة من أهم الوجهات الطبية في المنطقة. وهذا يحمل فوائد عديدة من بينها: توسيع التفاعلات الوطنية والدولية عبر بوابة الصحة، إنشاء روابط متعددة بين مؤسسات الصحة داخل إيران وخارجها، تعزيز التعاون عبر الحدود، تقوية القدرات الوطنية من خلال الدبلوماسية العامة، مواجهة العقوبات التي تهدف إلى عزل إيران، توفير مصدر دخل مستمر وقوي للبلاد، خلق فرص عمل للعاملين في قطاع الصحة، وتطوير الأعمال الصحية في المناطق الحدودية، وتعزيز المكانة العلمية والسياسية لإيران، والمساهمة في تحسين السياسات الصحية.

من جهة أخرى، تقع إيران في منطقة مليئة بالتوترات في جنوب غرب آسيا، وتواجه العديد من التحديات—خاصة البيئية مثل العواصف الترابية والجفاف، إضافة إلى المشاكل الاقتصادية والعقوبات والصراعات الإقليمية والأوبئة.

تُقدّم دبلوماسية الصحة العابرة للحدود، من خلال التركيز على التعاون الإقليمي والدولي المشترك، حلولًا لمواجهة هذه التحديات. وفي هذا السياق، يجب الإشارة إلى الدور الفريد للجمهورية الإسلامية في تعزيز العدالة وبناء القدرة على الصمود في عالم يتسم بالاضطراب. ومن هذا المنطلق، تسعى هذه المجلة، في هذا العدد، إلى تقديم مقالات تتناول هذه الموضوعات، آملين أن تكون ذات فائدة للقراء الكرام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى