لماذا لا نثق بالفرنسيين؟

نقلاً عن الموقع الإخباري «صداى سما» الثقة في الدبلوماسية — لا سيما في ملفات معقّدة مثل الملف النووي الإيراني — هي أثمن الأصول. يتراكم هذا الأصل عبر سنوات من المفاوضات، والتفاهمات الفنية، والالتزامات السياسية. مع ذلك، يثير سجلّ فرنسا في التعامل مع إيران مؤخراً، وخصوصاً بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، سؤالاً جوهرياً: لماذا ينبغي على طهران ألا تطمئن بعد إلى التزامات باريس؟
سعت فرنسا دوماً لأن تُقدِّم نفسها بوصفها جسراً بين إيران والغرب، ولا سيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ويُشار إلى هذا الدور في الأدبيات الدبلوماسية الأوروبية أحياناً بوصفه نهجَ «الوساطة» المتكرر. غير أنّه في الواقع، حولت حادثتان رئيسيتان صورةَ فرنسا من «وسيط صادق» إلى «فاعل متمرد» أو «وسيط مزعج».
ينشأ هذا التحوّل في النموذج من عدم التزام باريس بالتعهدات المعلنة، ومن إعاقة المسارات الدبلوماسية الحسّاسة، ومن خرق مباشر لوعودٍ طُرحت في مجالات فنية وسياسية. ويُظهر تحليل هذين المحورين أن المصالح الجيوسياسية قصيرة المدى وضغوط التحالفات الغربية ألقت بظلالها على الالتزامات الدبلوماسية الطويلة الأمد لفرنسا.
عقب الانسحاب الأحادي للولايات المتحدة من الاتفاق (الذي اعتُبر انتهاكاً صارخاً للمادة 6 من الاتفاق من قبل واشنطن)، وقع عبء الحفاظ على المصالح الاقتصادية لإيران على عاتق الأطراف الباقية في الاتفاق، وبالخصوص الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا (E3). ورغم كل الالتزامات الرسمية والتوقيعات والبيانات المشتركة، كانت الحقيقة أن فرنسا، رغم استضافتها للاجتماعات وكونها المتحدث الرسمي الداعم لهذا الإطار، عمليا تملصت من تشغيل وتفعيل آلية INSTEX.
استغرق التشغيل العملي لآلية INSTEX شهوراً، وعندما تم تفعيلها، كان نطاق عملها محدوداً جداً ومقتصراً في الغالب على تبادلات إنسانية (الأدوية والمستلزمات الطبية). مثل هذا التقنين يعبّر عن تراجع استراتيجي عن التعهد الأساسي.
أما النقطة الثانية، فهي أنه بعد التوتّرات الأخيرة وبالخصوص بعد الحرب الاثني عشرية في المنطقة — التي شهدت تأييد فرنسا العلني للطرف المقابل (الكيان الصهيوني والولايات المتحدة) — قررت إيران خفض مستوى تعاونها الفني مع الوكالة والانسحاب من بعض التعهدات الطوعية المتجاوزة للضمانات (كتنفيذ البروتوكول الإضافي). في هذه المرحلة الحسّاسة جرت مفاوضات مكثّفة بين طهران والوكالة والدول الأوروبية بما فيها فرنسا لتفادي استخدام آلية إعادة التفعيل (المعروفة بمصطلح «الماشة»).
وذلك خلال هذه المفاوضات، وعدت باريس إيران بأنه مقابل إبقاء مستوى معيّن من التعاون الفني (بمقتضى تفاهمٍ نُسِج في القاهرة)، ستضمن فرنسا عدم إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس محافظي الوكالة وعدم تفعيل آلية الماشة. كان هذا الوعد بالفعل الرافعة الأساسية لإيران للحفاظ على التعاون الفني في ظل عقوباتٍ خانقة.
للأسف، لم تفي فرنسا بهذا الوعد الفارغ. حتى بعد التوصل إلى تفاهمات هدفت إلى تهدئة الأوضاع، قدمت باريس وشريكان أوروبيان آخران مسودة قرار إلى الوكالة أسهمت في تسريع مسار تفعيل آلية الماشة. وهذه الخطوة تُعدّ خرقاً مباشراً للالتزام الذي كانت باريس نفسها ضامنته.
في ظل هذه الظروف، لا يمكن اعتبار بروز الدور الفرنسي مجدداً في معادلات الملف النووي دليلاً على الإرادة الحقيقية لهذه الدول الأوروبية لحلّ الملف. لذلك يجب على جهاز دبلوماسية وسياسة بلدنا أن يتعامل بحذر شديد مع «الوسطاء» الفرنسيين الذين لبسوا زياً دبلوماسياً عن وعي أو عن سهو.
المصدر: تسنیم




